للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الحكم الأدبي]

بقلم: السيد محمد نوفل

لا تختلف الآراء وتتشعب المذاهب اختلافها وتشعبها في الآثار الأدبية، فهذا يرضى عن قطعة أدبية يضيق بها الآخر، وذاك يعجب بمعاني قصيدة يراها غيره مرذولة. . . ومن العسير أن ترجع مخالفك في مسألة فنية عن رأيه مادام يستطيع إلى الدفاع عنه سبيلاً. ولا عاب في هذا، إنما العاب في ألا يخلص الناقد للحقيقة في بحثه، ويندفع مع الهوى في رأيه

وليس من شك في أن للوهم أثراً بيناً في الأحكام الأدبية، فالكاتب الذي يرفعه الجد إلى مرتبة الشهرة يستجيد جل الناس ما يصدر عنه، إن جيداً وإن رديئاً، ولا يكادون يستمعون لاعتراض معترض عليه أو لنقد ناقد له، بينما المغمور يلاقي من عنت الناس وإرهاقهم الشيء الكثير. بل ندر أن يخرج الأديب من غمرة المجتمع ويحتل مرقباً بارزاً فيه بغير يد مشهور يقدمه إلى الجمهور بصوته المسموع، بعد أن ينثر عليه درر المدح ويكسوه حلل التقريظ. . ومن أوضح الأمثلة لهذا ما لقيه الكاتب الكبير جولد سمث، فقد ذاق البؤس أعواماً مكث فيها يعرض آثاره الأدبية القيمة والناس يعرضون عنها حتى ألف قصته التمثيلية البارعة (تمسكنت فتمكنت) وصار يقدمها إلى مديري المسارح وهم يرفضونها إلى أن أيده الله بزعيم الأدب في عصره الدكتور جونسون، فعرضها عرضاً جميلاً وأثنى عليها بالذي هي أهله، فكان تمثيلها وإعجاب الجمهور بها واستمرار عرضها أياماً عدة، وبدأ ظهور نجم جولد سمث، وكان هذا رداً قوياً على بعض مشاهير الكتاب السكسونيين الذاهبين إلى أن الإنسان سيد نفسه وليس للمقادير تحكم فيه. . .

ولعل إمام البيان الجاحظ كان يرى هذا الرأي حينما نصح لمن يريد مزاولة الأدب أن يعرض ثمرة عقله على العلماء (في عرض رسائل أو أشعار أو خطب) لمشاهير أهل البيان، فإن رأى الأسماع تصغي له والعيون تحدج إليه، علم أنه ذو موهبة أدبية واستمر في سبيل الأدب وإلا انصرف عنه إلى غيره مما ترتاح له طبيعته، ولا تشق عليه مزاولته. نعم كان الجاحظ يرى أن للوهم تأثيراً في الحكم الأدبي، وإن لم يوفق إلى طريقة سديدة يختبر بها الناشئ في الأدب نفسه، فإن الوهم الذي يصرف العلماء عن الحكم له لخموله هو بعينه الذي سيصرفهم عن الحكم على غيره لشهرته، وكان الأولى أن يرشده الجاحظ إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>