في إنجلترا يتلقى الإصلاح الفلسفي طابع الخلق الأنجلوسكسوني، ويتخذ وجهة تختلف كل الاختلاف عن وجهة الحركة الإيطالية. فالعقل الإنجليزي الوضعي الرصين عديم الثقة بتقاليد الفلسفة المدرسية، وبما تصل إليه الميتافيزيقا المستقلة من نتائج متسرعة. وهو يؤثر التصعيد المتدرج البطيء في طريق التجربة على النظر الإيطالي الذي يبلغ القمة بسرعة، ثم لا يلبث حتى يهن عزمه، ويفقد توازنه، فيهوى في حضيض الشك. ثم إن هذا العقل متوقف عند حقيقة واقعة، وهي أن المدرسيين لم يساهموا قط في تقدم العلوم، وأن هذه الفتوحات الفكرية إنما تحققت خارج المدرسة، بل على الرغم منها.
أجل، فإن العلوم مدينة بنجاحها لا إلى أرسطو ولا إلى أي مرجع تقليدي سواه، بل إلى التأمل المباشر في الطبيعة، والتأثير المباشر للواقع، والفهم الواقعي المشترك. صحيح أن بحاث العلم الجريئين لم يكونوا أقل مهارة في القياس والاستدلال من مناطقه المدرسة، بيد أن استدلالهم يقوم على ملاحظة الواقع.
وكانوا - من جهة أخرى - إذا بدءوا من فرض أو تصور قَبْلي، تحققوا منه بالتجربة، كما فعل كولومبس، ولم يعترفوا بصدقه حتى يظفر بهذا (التصديق) الذي لا مفر منه.
وهكذا نجدنا، من جهة، حيال فلسفة رسمية عاجزة عقيمة، ومن جهة أخرى حيال تقدم مدهش في العلوم. وكان الاستنتاج الذي فرض نفسه على العقلية الإنجليزية العملية، هو وجوب ترك التأمل القبلي والقياس المساء استعماله، والأخذ بالملاحظة والاستقراء.
وهذا الموقف الذي أعرب عنه روجر بيكن في القرن الثالث عشر هو الذي أعلنه من جديد وبشر به ودعا إليه سُّميه فرنسيس بيكن بارون فيرولام (١٥٦١ - ١٦٢٦) في مؤلفاته المختلفة (شرف العلم وتقدمه) و (آلة العلوم الجديدة) وسواهما.
والمشكلة هنا هي أن نبدأ مسعى العقل كله من جديد - أن نبني العلم على أساس جديد كل الجد فإننا إذا رمنا التيقن من طبيعة الأشياء الخفية، فيجب ألا ننشدها في الصحائف والكتب، ولا في ثقات المدرسة، ولا في التصورات السابقة والأنظار القبلية. ويجب قبل كل شيء أن نقلع عن تقليد الأقدمين الذين عاق نفوذهم تقدم المعرفة. فقد كان فلاسفة