اليونان - باستثناء ديمقريطس وبضعة وضعيين - قلما يلاحظون، وإذا لاحظوا لم يبعدوا عن السطح. وقد حذا المدرسيون حذو الأوائل فضربوا بالواقع عرض الحائط، حتى ليخيل إليك أنهم فقدوا الشعور به.
هذا، إلى أن معارفنا مليئة بسوابق الأحكام فإن لنا أوهامنا وأهواءنا و (أصنامنا) - أصنام الجنس، والكهف، والسوق، والمسرح - التي نفرضها على الطبيعة، والطبيعة منها براء. فبما أن الدائرة خط منتظم يعجبنا انتظامه، ترانا نستنتج أن أفلاك الكواكب دوائر كاملة. إنا لا نلاحظ أبداً، أو لا نلاحظ إلا أسوأ الملاحظة، فإذا نجا قوم من كارثة خمس مرات، استدللنا من ذلك على أن قوى غيبية قد تدخلت في الأمر، ولم نحسب حسابا لخمس حالات أخرى لم ينج فيها قوم آخرون، لخليق بنا أن نقول كما قال ذلك الحكيم الذي أروه في بعض المعابد ألواح نذور علقها ناس نجوا من الغرق:(ولكن أين صور الذين هلكوا من بعدما نذروا؟). إنا نفترض عللا غائية، ونفرضها على العلم، ونحمل بذلك إلى الطبيعة ما ليس يوجد إلا في الخيال.
إنا بدلا من أن نتفهم (الأشياء) نتنازع على (الألفاظ)، التي يفسرها كل امرئ كما يهوى. إنا على الدوام نخلط بين موضوعات العلم وموضوعات الدين، فلا نظفر إلا بفلسفة مشوبة بالخرافة، ولاهوت مشوب بالهرطقة:(إن الفلسفة الطبيعية لم تلف بعد خالصة غير مغشوشة؛ وإنما هي فاسدة مشوبة بالمنطق في مدرسة أرسطو، وباللاهوت الطبيعي في مدرسة أفلاطون، وبالرياضيات في مدرسة أفلاطون الثانية - مدرسة أبرقلس وأصحابه - مع أن شأن الرياضيات أن تحدد الفلسفة الطبيعية، لا أن تولدها أو تنشيءها).
ورجاء الفلسفة الوحيد في هذه الفوضى من الآراء، ومن الأنظمة القبلية يستقر في الخروج على التقاليد اليونانية والمدرسية، وفي تقبل المنهج الاستقرائي. إن ما تدعوه الفلسفة التقليدية (استقراء) يسير بالتعداد البسيط ويؤدي إلى نتائج غير يقينية، وهو معرض للخطر يأتيه من مثال واحد يناقض تلك النتائج، لأنه يبث فيها استناداً إلى عدد قليل غير كاف من الوقائع. أما الاستقراء الصحيح، منهج العلم الحديث، فإنه لا يسرع من بضع ظواهر متفرقة غير محققة إلى أعم البديهيات، بل يدرس الوقائع والجزئيات في عناية وصبر، ويرتقي إلى القوانين بالتدريج وبغير توقف. وينبغي لنا عند وضع القانون من القوانين