بين الإطناب الذي لم تؤثره (الوادي)، وبين الإيجاز الذي تحبه (الرسالة)، كادت تضيع صداقة رسخت قواعدها على الإكبار والحب، وتأكدت أسبابها على الخفض والشدة، وتمكنت الفتها على ربع قرن من الزمان المضطرب تغيرت فيه مودّات الأخوة، وتنكرت قلوب الجماعات، وتحللت روابط الأمم.
وجملة الأمر أن صديقي طه قد بنى قصة من الأدب الجميل على رسالتين خاصتين أرسلهما إليه الأستاذ توفيق الحكيم، ثم نشرها ونشرهما في الوادي؛ فلما أصبح كل ذلك للجمهور والتاريخ جاءت الرسالة فنشرته، لأنها كما قلت في العدد الماضي كانت مسرحاً لهذه الرواية، فمن حق قرائها أن يشهدوا فصلها الأخير، ولأنها سجلٌّ لألوان الأدب الحديث، فمن حق الأدب أن نسجل في تاريخه ما يقع بين رجاله من الخلاف الجدي فيه كاملاً غير منقوص. وإن بقي لأصحاب الظنون والفروض سبب ثالث فلن يكون غير تعصب الصديق للصديق. وكان الأستاذ توفيق الحكيم فيما بين ذلك قد نشر بيانه الذي نقلناه في الأسبوع الماضي عن الوادي بعنوان (خصومة)، فلم يُتَح لي الاطلاع عليه لحالة خاصة صرفتني عن قراءة الصحف ذلك اليوم. ولو كنت قرأته وقرأت بجانبه تعريض الدكتور بالأستاذ في مقاله (أخلاق الأدباء) لشق على فهمي أن يستنتج من المقالين عودة الصفاء وزوال الجفوة.
تصافى الصديقان إذن على غير علم من الوادي ولا من الرسالة، فلما رأى الأستاذ الحكيم عودة المقالة في الرسالة خالجته في الصفاء ريبة، وأراد صديقي الدكتور أن يجلو شبهة الأمر، ويخرج من تبعة النشر، ويترضى الغاضب المرتاب، فأرسل إلى كلمته العاتبة تتنمَّر على صفحة الوادي.
كان المألوف في مثل هذه الحال أن يقف العتاب عند الترضي والتنصل، ولكن الأسلوب المطنب الذي يؤثره صديقي من خصائصه التدفق، والتدفق لا يخلو من كدورة، فأخذ يولد من العتاب ويفرع فيه، حتى خرج به إلى التلويح والتجريح والاستعداء، لأنني نشرت ما نشرت بغير إذنه. علقت على هذا (العتاب) الموجع بأن صديقي طه استغل حيائي منه ووفائي له في إرضاء الحكيم وإنصاف الوادي، لأنه يعتقد إني إذا عاتب واشتد لا أجيب، وإذا أجبت لا أعيب؛ ولكن الأسلوب الموجز الذي اصطنعته كان على ما يظهر أقرب إلى