(سيلمح القراء في هذه الكلمة بعض النواحي الشخصية. . ولكنهم سيجدون صورة من صور الصراع النبيل القوى في الحياة. . . وليس أحق من الدكتور (زكي مبارك): شيخ المصاولات والمطاولات في عالم الأدب، بهذه القطعة. . . فليتقبلها في معتكفه الهادئ. . . على طرف الصحراء)
(شكري)
أخي الأستاذ علي:
الآن أرسلت يدُي بعد أن مسحت بهما دمعتين اثنتين غشيتا عيني وانحدرتا على خدي كقطرات الندى الناعم حين يترقرق على أوراق الزهر الرفاف في ربيع الغوطة الفاتن. . . ولقد أخذت القلم لأكتب لك، وأنا لا أدري أي شيء كانت هاتان الدمعتان. . . أكانتا تطفئان نار الوله والحنين، أم ترثيان لوضع البلد المسكين، أم تترجمان عن فرحة القلب بالأمل المؤيد والنصر المبين؟ وهل كنت أملك إلا هاتين الدمعتين، وإلا هذا القلم أفزع إليه كلما عبث بي الشوق، أو ماجت بي الذكرى، أو استثارني الحب
لقد قرأت زفرتك هذه التي سطرتها بدم قلبك الفائر، وعزم شبابك المضطرم؛ فبعثت في نفسي عالماً كبيراً. . . بكل ذكرياته وأحاديثه. . . ما كان أشد حرصي على أن أدفنه وأنطوي عليه؛ وأثارت في ذهني صور الماضي البعيد بكل ما كان يصطرع فيه من آمال، ويفيض فيه من خواطر. . . ونعمت حيناً بهذا الجو العبق الذي فنيت به، وعشت معك من جديد ساعات تقلبت فيها مع الزمن الدائر، وجريت مع الأيام المتعاقبة، وقرأت هذه الصفحات المشرقة التي خططتها بيديك في كتاب الحياة، وعاودت قراءتها وانغمست في نعيمها حيناً وفي شقائها أحياناً. . . ومضيت مع فرحتها مرة، ومع شكاتها مرات، وخرجت وفي قلبي يقين، وعلى شفتي ابتسامة، وفي عيني بريق من الأمل الضاحك
لقد عرفتَني ناشئاً حين كنت أسير مع أخيك بين المدرسة والبيت. . . صغيرين وادعين. .