للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

٣ - أبو العيْنَاء

بقلم محمود محمود خليل

لقد مات المأمون؛ ولقد حزن أبو العيناء حقاً عليه، حتى بكى بكاء مراً، وتقرحت عيناه؛ ويظهر من بكائه وحديثه عنه أنه راعا حق النعمة، وقام بإسداء الشكر لصاحبها، حتى بكاه بعد وفاته؛ وسواء أكانت خلة الوفاء موجودة فيه وهو ما لا أظنه، أم كان بكاؤه هذا لمنفعة شخصية فاتته، وخاف من انقطاع الرزق الذي أجراه عليه المأمون من بيت المال، فإن هَمَّ ضمان قوته كان يخالج فؤاده، ويخشى من يأتي بعده.

ولقد تحققت مخاوفه، فإن عهد المعتصم والواثق لم يظهر فيه شأن أبي العيناء كثيراً، ويرجع هذا إلى الخصومة التي كانت قائمة بين الوزير في ذلك العهد محمد بن عبد الملك الزيات، وبين القاضي أحمد بن أبي دؤاد، تلك الخصومة التي اشتدت إلى درجة كبيرة، حتى جعلت ابن أبي دؤاد يأنف أن يقوم عند دخول ابن الزيات، وكان قد أوجب الخليفة الواثق أن ينهض قياماً له جميع الحاضرين في المجلس، ولم يرخص في ذلك لأحد، فاشتد الأمر على القاضي، ولم يجد لمخالفة الواثق سبيلاً، فالتجأ إلى حيلة لطيفة تخلصه من ذلك الموقف الحرج، فوكل بعض غلمانه بمراقبته، وموافاته بخبر قدومه، فإذا أقبل نهض يصلي، فقال ابن الزيات في ذلك:

صلى الضحى لما استفاد عداوتي ... وأراه يمسك بعدها ويصوم

لا تعدمَّن عداوة موسومة ... تركتك تقعد تارة وتقوم

ويرجع سبب هذه العداوة إلى المنافسة في الرياسة التي كانت بين هذين الرجلين الفذين.

لم يقف أبو العيناء إزاء تلك العداوة موقف الحياد، بل انضم إلى القاضي ابن أبي دؤاد، فأبعده هذا إلى حد ما عن مجلس الخليفة المعتصم والواثق ووزيرهما ابن الزيات؛ وقد انقسم الأدباء أيضاً إلى حزبين، حتى رأينا الجاحظ يميل إلى ابن الزيات ويكون من حزبه. ولقد سأل أبو العيناء الجاحظ مرة أن يشفع لصاحب له عند ابن الزيات، فكتب الجاحظ الكتاب، وناوله الرجل، فسار به إلى أبي العيناء، وقال له: قد أسعف بالمراد، قال: فهل قرأته؟ قال: لا. إنه مختوم. قال: ويحك فُضَّه لا يكون صحيفة المتلمّس؛ ففَضَّه فإذا فيه: موصل كتابي هذا سألني فيه أبو العيناء، وقد عرفتَ سفهه وبذوء لسانه، وما أراه لمعروفك

<<  <  ج:
ص:  >  >>