للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في السياسة القومية]

بين الأخوة. . .

أسرتان أختان ورثتا أمجاد الدهر، ورفعتا أركان الحضارة، وعاشتا على النعماء والبأساء ثلاثة عشر قرناً يظلهما وطن كريم، ويغذوهما نهر فياض، وترعاهما شريعة سمحة، وتربط بينهما أواصر خالدة من صلة القربى، وحرمة الجوار، ووحدة المنفعة، لا يجوز أن يعبث بوحدتهما المقدسة عابث لنزوة غضب أو شهوة خلاف.

تلك كانت كلمتي لصديقي ف. ب، وهو من سراة الأقباط الذين اعتقدوا مبادئ الوفد وضعها الزعيم سعد؛ قلتها له حين أنكرت في بعض حديثه معنى من معاني العصبية المفرِّقة التي ماتت ألفاظها في لغتنا المصرية منذ طويل. وكان صديقي هذا إلى يوم قريب لساناً من ألسنة الوفد، يؤمن برسالته، ويخلص لسياسته، ويخضع لزعامته، ويعتقد أن مبادئه هي الدِّين المشترك الذي تصلح عليه الأمة، وتتحقق به المساواة، وتشرق فيه العدالة، ويطهَّر به الدم المصري من جراثيم الفرقة فلا يكون لابن النيل إلا وصف واحد يُشتق من مصريته، لا من عقيدته ولا من عنصريته. فما هو إلا أن غضب من رجال الوفد غاضب يتمنى إليه حتى أصبحت مبادئ الوفد كفراً، وسياسته غدراً، وزعامته فجراً، وحكمه محاباة؛ وحتى صار الخلاف بين رجل ورجل، خلافاً بين عنصر وعنصر، وبين دين ودين، وبين كثرة وقلة سوى بينهما الفضل لا العدل، فلم يعد هناك كثرة ولا قلة، ولا عزة ولا ذلة، ولا قرابة ولا بعد

أهكذا يا صديقي نُحكم الهوى في الرأي، وننصر العصبية على الوطنية، ونصدع ما أراد سعد أن يُرْأب، ونقطع ما أمر الله أن يوصَل؟ إن كان لم يقنعك ما قلت، فإني لأرجو أن يقنعك ما أكتب:

إن توحيد الأمة معنى من توحيد الله لا يوسوس بتوهينه في الصدور إلا شيطان. وإن هذا الشعب المفطور على السماحة والوادعة والألفة، لم يسجل عليه تاريخه الطويل أن بعضه تعصب على بعضه إلا بمكر الدخيل أو غدر الخائن. وإن الإسلام الذي يرتع في ظلاله اليهودي المضطهد، والأرمني المبعَد، والرومي المهاجر، والأوربي المستعمر، لا يمكن أن يكون مصدر شقاق بين عنصرين شقيقين خلقا من طينة واحدة، ونبتا في مغرس واحد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>