النظام أساس العالم، والتوقيت من الأسس التي يقوم عليها النظام. عرفه الإنسان منذ عصوره الأولى، أي منذ لاحظ أن اليوم ليل ونهار، وأن الأيام يتلو البعض الآخر متشابهة في شكلها البارز، متباينة طولاً وقصراً، وبرداً وحراً. فإذا الأيام مجموعة في فصول، والفصول مقسمة إلى شهور، والشهور مضمومة في السنة. ولم يلبث التوقيت بالسنة أن استولى على الإنسان في كل مرافقه.
لكل إنسان على اختلاف عمله سنته الخاصة به. فللمزارع سنة، وللتاجر سنة، وللعامل سنة، حتى الحكومة عندنا لها سنتها المالية الخاصة بها؛ وللشمس سنة، وللقمر سنة، وللنجوم سنة. وكل واحدة من هذه السنين تختلف في بدايتها ونهايتها عن السنين الأخرى؛ فسِنو الأجرام السماوية موقتة بدورانها، وسنو طبقات الناس موقتة باختلاف الفصول وتأثيرها عليها.
على أن الناس إذا اختلفت سنتهم الخاصة وفقاً لأعمالهم وأغراضهم فقد اعتنقوا كذلك سنة بعض الأجرام السماوية، وخاصة الشمس والقمر. فجعل بعضهم السنة الشمسية، كما جعل البعض الآخر من السنة القمرية، عامة لكل الطوائف.
هذا دليل من الأدلة على أن الإنسان يتطلع أبداً إلى السماء كأنها مهبط وحيه ومصدر هديه في حياته. فعيناه أبداً مرفوعتان إليها يتأمل في قبتها الزرقاء الجميلة، ويسر بانعكاس أضوائها، وغرابة غيومها، واختلاف ظلالها، وتنوع ألوانها، من فجر طالع، إلى صبوح براق، إلى غبوق داكن، إلى شفق أحمر لامع إلى غسق أسود، إلى ليل حالك، ويعجب بخطوطها الزرقاء التي لا نهاية لها، وأجرامها المتقدة كأنها أنوار تتلألأ في بحر لا شاطئ له، ومجوهراتها الساطعة التي لا توزن حجارتها بالمثقال. إنها ثروة عظيمة بعيدة المنال، لا ينضب معينها، ولا تزول بهجتها، ولا تنحط قيمتها، لا أول لها ولا آخر؛ لا يستطيع الإنسان جمعها، أو تناولها، أو فقدها، أو ثورتها، ولا يحول بينه وبينها غير الموت.
ولكن الموت إذا نزل بالإنسان فإنه أضعف من أن ينزل بها وأن يزيل بهجتها ورواءها. إنه مثل النسر المحلق في كبد السماء العاجز عن أن يحول دون تغريد البلابل.