حدثنا في مقالنا الأول عن مراحل الوحدة العربية، وكيف تطورت فكرة العروبة في التاريخ، فبعد أن كانت حلماً ذهبياً جميلاً في مخيلة محمد علي الكبير عزيز مصر خرجت إلى الوجود وأصبحت حقيقة واقعة؛ فالمرحلة الأولى إذن انقضت والوحدة العربية لا تزال حلماً من الأحلام، أما المرحلة الثانية فقد طبعها الجهاد في سبيل تحقيق هذا الحلم بطابعه الخاص. وقد استهل هذا الجهاد العربي المبين بالنضال بين أبناء العروبة الأبرار وبين الأتراك وانتهت هذه المرحلة من سلسلة تاريخ القضية العربية عام ١٩١٨ وتشمل حوادث الفترة الممتدة من إعلان الدستور العثماني سنة ١٩٠٨ حتى دخول الجيش العربي إلى دمشق في أول أكتوبر سنة ١٩١٨، وإنشاء الحكومة الفيصلية في ربوع الشام.
ولئن ذهب بعض المؤرخين المعاصرين من الشرقيين والغربيين إلى اعتبار ما حدث في العهد الحميدي التركي من حوادث فردية لا انسجام بينها ولا ارتباط كصدور كتاب أم القرى وطبائع الاستبداد، ونشر كتاب يقظة العرب في آسية التركية بالفرنسية في باريس عام ١٩٠٥ من مقدمات الحركة العربية وطلائعها، أو إنشاء الجمعية السرية التي أنشئت في بيروت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فالنهضة العربية المادية الحقيقية لم تبدأ إلا بعد إعلان الدستور سنة ١٩٠٨ وقد قامت على دعامتين جديدتين: حرية الكلام، وحرية الاجتماع، فقد كفلها النظام الحكومي الجديد لسكان تلك المملكة، فانطلقت الألسنة والأقلام، وارتفع الضغط عن الأفكار، وانتشرت العلوم، فساعد هذا الانقلاب وهو خطير الشأن على إيقاظ العرب، فأدركوا أنهم كمية مهملة في العالم، وأن لهم حقوقاً يجب أن ينالوها، وكرامة يجب أن تصان، ومجداً يجب أن يعملوا لإحيائه وتجديده.
وصدرت صحف عربية عديدة في ظل النظام الدستوري الجديد في دمشق وبيروت والقدس وبغداد والبصرة وغيرهما من بلاد العرب، وفي الآستانة نفسها، وإلى هذه الصحف، وبصورة خاصة إلى الصحف العربية التي كانت تصدر في القطر المصري الحبيب، يعود معظم الفضل في تكوين (الرأي العام العربي) وإنشائه، وبث الروح القومية بين طبقاته.