ولم يغتفر لها الترك ذنبها يوم نصبوا الميزان في عالية لمحاكمة أحرار العرب، فكان الصحافيون أكثر الطبقات ضحايا، فقد استشهد منهم في هذه المرحلة الكثيرون، وحكم في هذا الدور بالإعدام غيابياً على فريق من رجال الصحافة في مصر؛ ويأتي رجال الجمعيات والأحزاب السياسية بعد الصحافيين. ولئن كان ضحايا هؤلاء أقل من أولئك، فما ذلك إلا لعجز الترك عن اكتشاف أسرار الجمعيات السرية لما تذرع بها رجالها من تكتم شديد خلال التحقيق والمحاكمة. ومن تحصيل الحاصل القول بأن المنتدى الأدبي في الآستانة كان أكثر الجمعيات العربية ضحايا، لأنه كان أشهرها وأهمها، ولأنه كان مقر الدعاية العربية في الآستانة؛ فانتقم الترك من مؤسسيه انتقاماً مريعاً. ويأتي حزب اللامركزية بعد المنتدى الأدبي العربي، فقد فتك الترك بكل ما استطاعوا القبض عليه من رجاله، كما حكموا على المقيمين بمصر كافة بالإعدام. ثم يأتي بعد ذلك عنصر الضباط العرب في الجيش التركي، فكانوا يرسلونهم إلى خطوط النار في ميادين الحرب، وقد استشهد كثيرون منهم على هذا المنوال.
ولا بد لنا من القول بأن (القضية العربية) مرت في هذه المرحلة بثلاثة أدوار:
١ - يبدأ الدور الأول بإعلان الدستور سنة ١٩٠٨، وينتهي بإعلان الحرب العظمى عام ١٩١٤، فقد نهج العرب في خلاله نهج الأمم المناهضة العاملة للحرية والاستقلال، فألفوا الجمعيات السرية، وأصدروا الصحف، ونظموا القصائد الحماسية القومية، وأنشئوا الأحزاب السياسية، وعملوا على التنظيم الداخلي، وانشئوا الروابط بين لجانهم وجمعياتهم وأنديتهم، واستعدوا للعمل الكبير الذي وضع نصب أعينهم القيام به، تحقيقاً لحلم عزيز مصر العظيم محمد علي باشا
ولا يسع الباحث في أعمال هذا الدور إلا الإعجاب بما يشهده من انتظام وتضامن وتعاون بين أبناء العرب في جميع الأقطار والأنحاء
٢ - أما الدور الثاني، وهو دور الإرهاب والظلم، أو دور مطاردة رجال (القضية العربية) وأحرار العرب ومفكريهم، فيبدأ من أوائل عام ١٩١٥، أي من زمن وصول جمال باشا السفاح إلى دمشق وإصداره أمره بإلغاء كتيبة الضباط العرب الشباب من خريجي المدارس العليا؛ وكانوا يمرنونهم في دمشق ويعدونهم ليكونوا ضباطاً، على أثر ما سمعه من أناشيدهم