حبسني عن ندامى (الكافورة) عوادٍ من الشغل والمرض فلم أعد إلى الأنس بهم إلا بعد حين. وهذا الحين على قصره كان كافياً أن يجعل الحال ويبدل الجو غير الجو
هذه طلائع الخريف الباكر قد هيمنت على الأفق: فالرياح السوافي تنوح على عذبات الشجر الوريق فيرتعد فرقاً من نذير الجفاف والموت، والغنائم الرقاق تتجمع غبراً كخَمل النعام، أو تتفرق بيضاً كمندوف القطن، فيتعاقب من تجمعها وتفرقها الظلام والنور والظل والحرور على صفحة النهر ووجه الأرض
وطلائع الخريف تبكر في الريف فتحدث في نظام الطبيعة قليلاً من الفوضى. ذلك أن الفيضان يشارف غايته المقدورة في أوائل سبتمبر، فيترع النيل كل القنوات، ويغمر أكثر الحقول، ويكون من جراء هذا الري الطافح أن يفتر الحر، ويطرب الهواء، وينقد بخار الماء سحباً في السماء، وأندية على الأرض، فلا تجد أواخر الصيف مناصاً من الرحيل. وفي رحيل الصيف على هذه الحال اضطراب في حياة الناس والزرع. فالقطن يعوقه احتجاب الشمس عن اكتمال النضج فيفسد لوزه، والإنسان يُعجله تغير الجو عن اتخاذ الحيطة فيميل اعتداله.
سكنت الريح بعد هبة حمقاء هصرت غصون الشجر، وكشفت أغطية المناضد، وقلبت وجوه الحُدَّاث والجُلاَّس فقطعوا سلاسل الحديث، واسترجعوا رسل النظر. وكان إخواننا المصطفون قد نابهم من ثورة الريح ما ناب الناس؛ فانزوى كل امرئ عن أخيه وانطوى على نفسه. فلما سكت عن الريح الغضب عادوا يستقبلون أنفاس الموج، ويستروحون أنسام الزروع، ويستمعون إلى الأستاذ نجيب، وكان يتحدث عن مشكلات التموين ومخزيات الإدارة. والأستاذ نجيب مدرس بكلية الآداب، قضى أسابيع من عطلته عند أهله في سمنود. وكان له بجانب ذهنه معدة كمعدة الأحياء لا تفتأ تطلب القوت. والقوت اليوم بفضل الطاغية (هتلر) لم يعد كما كان مبذول المنال يأتيك على اغتماض وأنت وادع؛ إنما أصبح عزيز الدرك لا تناله إلا ببطاقة أو صداقة أو شفاعة. فكان يلقى كتابه من يده، ثم يخرج ومعه بطاقة التوزيع يسأل عن القمح فلا يجاب، ويبحث عن البترول فلا يجد.