للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الشعر بين الوثنية والإيمان]

للأستاذ عطية الشيخ

لاحظ نقاد الأدب العربي من قبل خمود الروح الشاعري بين العرب إثر ظهور الإسلام، وإن الضعف الذي طرأ على الشعر لا يقتصر على الشعراء الذين ظهروا إبان عصر النبوة والخلفاء الراشدين فحسب، بل أدرك الشعراء المخضرمين أنفسهم، فسكت أكثرهم وضعف قويهم.

واتخذ هؤلاء النقاد من الموازنة بين شعر لبيد وحسان في الجاهلية والإسلام برهاناً على صدق دعواهم، وعللوا ذلك بأسباب شتى منها: انبهار شعراء الجاهلية ببلاغة القرآن الذي أفحمتهم فصاحته، ومنها تغير الموضوعات التي اعتادوا النظم فيها بعد أن أصبحت منكرات يحرمها الإسلام: كالفخر بالنسب، وتمجيد العصبية، والحض على الثأر. . . الخ، ومنها اشتغال العرب بالحروب ضد الإسلام أولا، ولنشر سلطانه في الآفاق بعد أن آمنوا به ثانياً؛ ومنها أن الشعراء المخضرمين أدركوا الإسلام في شيخوختهم فشاخ شعرهم وخبت أرواحهم، كما شابت وضعفت جسومهم؛ ومنها أن القرآن العظيم نال من قدر الشعر والشعراء في مثل قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. . . الآيات)، إلى غير ذلك من العلل المعروفة لطلاب الأدب.

وعندي أن هذه الأسباب مع وجاهتها إنما هى أعراض لعلة كبرى، وأن ما لاحظه نقاد الأدب العربي لا ينحصر في عصر صدر الإسلام وحده، ولا في شعراء العربية فحسب، وإنما هو حالة عالمية للشعر والشعراء في كل زمان ومكان، خلاصتها أن الوثنية والزندقة والإباحية من عوامل نمو الشعر، وأن الإيمان والاستقامة والفضيلة من عوامل ضعفه، وأن البيئات الوثنية أخصب للشعر من بيئة الإسلام والإيمان بمعناهما الأعم، وبذلك تستطيع أن تعلل فحولة الشعراء الوثنيين في الهند عن الشعراء المسلمين هناك مع اتحادهم في البيئة والجنس؛ وخلو أوربا في العصور الوسطى أيام تغلب سلطة الكنيسة من شعراء مجيدين كهوميروس قبل المسيحية وكهيجو وجوته بعد عهد الإحياء، وتغلب روح الشك وضعف الكنيسة، وعدم ظهور شاعر يهودي يؤبه له لعراقة هذا الشعب في الإيمان بتعاليم دينه، وجمال شعر الأندلس وقوة خياله في عصر ملوك الطوائف بعد ضعف الشعور الديني

<<  <  ج:
ص:  >  >>