للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

عطر المنصور

للأستاذ رفعت فتح الله

في إحدى قباب بغداد قرأ المنصور ورقة تشكو، ثم قبضها في يده تتلوى، وقد ظل يردد كلماتها، يكاد يتمزع من الغضب، كأنه سحاب راعد: في عينيه برقه، وعلى جبينه قطره، وفوق سمرته غيمه، ولم يكد يخفف عن الورقة قبضته حتى انتفضت، كأنها منخنقة فك خناقها، فبدت آثاره على صفحاتها اثناء، وعلى كتابتها شحوباً!

ألقى المنصور الورقة من يده، بعد أن ألقى ما فيها في نفسه، ولقد ارتعد إذ رأى رعيته تشكو بعض عماله، وكل راع مسؤول عن رعيته، فأين يفر الظالم من شكاية المظلوم؟ وكيف يواجه ظلم العامل حزم الخليفة؟

واخذ يفصل أنواع المظالم، ثم ينثرها في رأسه ليرسل إليها تفكيره، فتواردتها آراؤه كأنها حمام سراع إلى حب منثور، وتزاحمت، وتضاربت، حتى أحس ضرباتها في رأسه، ثم تلاقت الآراء على رأي سن عليه أمره، وعقد عليه قلبه: أن يعزل العامل لظلمه، ويأخذ ماله على عينه، ويترك المال في بيت مفرد، يسمى (بيت مال المظالم) ويكتب عليه اسم صاحبه

ولما استراح إلى رأيه نادى صاحبه ليأمره آمره، ثم قام إلى مجلس أهله ليقضي حق الاهل، فلقى في طريقه صبيا يلعب، فمس فرع أذنه بسبابته؛ فنظر إليه الصبي نظرة الصغر إلى الكبر، فأخذه على ذراعه، وغمز نغانغه، وكلمه مداعباً، ثم قبله على شغف، وأرسله على مرح قائلاً: إذا كان الحزم مع الكبير مجازاة، فهو مع الصغير مناغاة:

ونظر غير بعيد، فإذا رجل يمشي مشية الأسيان، يرسُّ الحديث في نفسه فتتحرك شفتاه بما لا تسمع أذناه، ويفتح عينيه ولكنه لا ينظر بهما، كأنهما انعكستا على رأسه، فتجسمت فيهما صور ما وراءها من تفكير، ولم تتصور أشباح ما أمامها من منظور، فهجس في نفس المنصور أنه يرى مظلوما أصابه بعض عماله، وارتجع إليه فكرة الأول، فلم يلبث أن أشار إلى الرجل الذاهل إشارة ضاعت في ذهوله، فأومأ إلى عصا ألقيت في طريق الرجل فاعترضته حتى كاد يتعثر، ولكنه اعتدل ولم يلتفت!

<<  <  ج:
ص:  >  >>