من ذياك المخلوق المتجبر الذي تعنو له جباه الضواري في أدغالها، وتفرق من طلعته الوعول في معاقلها، ويمعن السمك في مساربه هلعاً لدنوه، وتهابه الطيور في أوكارها، والصّلال في أجحارها؟! هو الإنسان! درج على الأرض فكان سيدها المطاع، ولم تعجزه إلا تلك القوى السماوية، من ريح زفوف عاتية، أو رعود قاصفة مدوية، أو زلازل تميد لها الأرض تحت قدميه، أو براكين تثور محنقة غاضبة أمام عينيه. كيف يدرأ شرها، أو يحوز رضاها؟ سجد لها وتضرع، وتزلف بالقربى والابتهال. ولكنه خلق وفي نفسه عنجهية وكبرياء، فأخذ على مر القرون يتنكر لها، ويشمر عن ساعده لتسخيرها وصرعها، وكلما ذاق لذة الظفر مرة، قوى إيمانه بقدرته، وجلال عقله، وكفر بها، ولج في كفرانه؛ بيد أنه أحس من أعماق فؤاده نداء خفياً أن ثمة إله آخر، أنت والدنيا والطبيعة صنع يده القادرة! ما بالك كلما حز بك مر، أو تكأكأت عليك المصائب، أو خطف الموت فلذة كبدك وأحباءك، تنادي في ذلة وضراعة ذلك الإله الذي لا تراه، أنْ رفقاً يا رباه، فليس لي حول ولا طول أمام جبروتك وعظم ملكوتك. قرت في جنانه تلك العقيدة فهدأ بلباله، وطفق يلهج بما يكنه فؤاده من حب ومعرفة بالجميل، وندم وتوسل، لذلك الإله الدائم اليقظة، الذي ينشر رحمته على الدنيا جمعاء. وهل الصلاة والعبادة سوى مظهر من مظاهر ذلك الشعور الذي يفيض به قلب الإنسان؟
فكر في كنه ذلك الإله، ثم فكر حتى أجهده الفكر، وكبا عقله في الميدان صريعاً، وزين له الشيطان أن يصور ذلك الإله ويرمز له، ويعبد الرمز تقرباً إلى الله وزلفى؛ ثم أتى عليه حين من الدهر نسى مغزى هذه الرموز والأصنام، فخالها آلهة قادرة، يتحكم كل منها في شأن من شئون العالم؛ وتوهم أن لها ما للإنسان من شهوة ورغبات، وإحساس وشعور؛ ومادام الإنسان لا يَقر عيناً ويطيب نفساً إلا إذا عَلَّ من معين المادة حتى روى، فكذلك الآلهة لابد له من القرابين والضحايا. شاد المعابد والهياكل وأخذ يتعبد كما زخرف له الشيطان؛ ولهذا كانت العبادة عند قدماء الهند تتألف من الطهارة والقرابين، وظلت هكذا ردحاً من الزمن غير قصير، حتى آب الإنسان لرشده وارتقت الفكرة الدينية عند فلاسفة