منذ أسابيع قلائل توفي في صمت وسكون، رجل كان أسمه قبل ثلاثين عاما يدوي في أرجاء العالم بأسره، ويقترن أسمه بأعظم وأشهر مأساة قضائية في عصرنا؛ ذلك هو الكولونل الفريد دريفوس الضابط الفرنسوي اليهودي، الذي أثار اتهامه ومحاكمته ومحنته في خاتمة القرن الماضي في فرنسا أعظم ضجة، وشغلت قضيته الأمة الفرنسية بأسرها زهاء عشرة أعوام، وأثارت فيها من الجدل القضائي، والشهوات والأحقاد القومية والجنسية، والعواطف السياسية ما كاد يدفعها إلى معترك الحرب الأهلية والفوضى
وقد طويت صفحة قضية دريفوس منذ بعيد، وأسدل الستار على آخر فصل من فصولها منذ ثلاثين عاما. ولكن هذه المأساة القضائية الهائلة، التي طبعت تاريخ العصر بطابعها القوي، وأثرت في كثير من نواحيه السياسية والاجتماعية، مازالت منذ ثلاثين عاما تثير اهتمام البحث التاريخي والقضائي، وتصدر عنها المؤلفات الحافلة بأقلام أكابر الكتاب والساسة، ومنهم من عاصروها واتصلوا بحوادثها وشخصياتها. وكان آخر ما صدر عنها من المؤلفات الهامة كتاب بالألمانية حافل بالشهادات والوثائق الحاسمة، هي مذكرات الجنرال ماكس فون شفارتز كوبن، وهو الذي كان ملحقا عسكريا للسفارة الألمانية في باريس وقت انفجار العاصفة والقبض على دريفوس (سنة ١٨٩٤) متهما بالخيانة العليا وبيع أسرار الجيش لدولة أجنبية؛ وكانت فرنسا بأسرها تتهم ألمانيا بأنها هي الدولة التي تحاول الوقوف على أسرار الدفاع الفرنسي، وتتهم الملحق الحربي الألماني بأنه هو الذي يعمل على ابتياع هذه الأسرار. ولم يكن في وسع الجانب الألماني أن يتكلم يومئذ وأن يفضي بما لديه لإظهار الحقيقة؛ وكانت المأساة القضائية تسير في طريقها، وينزل القضاء الحربي بالضابط البريء أقسى حكمه مستندا إلى طائفة من الوثائق والشهادات المزورة، وفرنسا تضطرب من أقصاها إلى أقصاها سخطا على الخائن وعلى اليهودية التي ينتمي إليها؛ وهناك في الظلام رجل واحد يعرف لب الحقيقة، ويستطيع أن ينقذ البريء، وأن يهتك هذه الحجب كلها بكلمة؛ ذلك الرجل هو فون شفارتز كوبن الملحق الحربي الألماني،