كان من حكمة الله ورحمته بالإنسانية أن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم للعرب خاصة وللناس كافة على فترة من الرسل، والناس في عمى عن الحق. وضلال عن الهدى، وجهالة شملته من أدناه إلى أقصاه. فقد كان من الناس قبل بعثة المصطفى من قال: ما يهلكنا إلا الدهر، ومن زعم أنه لا يبعث من يموت، ومن يعبد إلهين اثنين واحداً للخير وآخر للشر، ومن جعل يقيم من الأحجار أوثاناً وأصناماً يعبدها ويقدم لها القرابين حتى من أبنائه وأفلاذ كبده! هذا في ناحية العقيدة. أما في ناحية الخلق والأجتماع؛ فكان البغى والعدوان، وأكل مال اليتيم، وهضم حق الضعيف، ونصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، واستبداد الأكسرة والقياصرة بمن استرعاهم الله من خلقه. كان الأمر كذلك وشراً من ذلك، حتى نظر الله للإنسانية المهضومة، والقلوب الحائرة، والنفوس المتطلعة لنور يهدي به الله خلقه بعد ضلال، ورشد يخرجهم من الظلمات، ورحمة تعمهم جميعاً، فكان محمد هو الهدى والرشد والرحمة والنور، وبه تمت نعمة الله على خلقه وقامت حجته عليهم، بما جاء به من عقيدة وتشاريع وأخلاق، بها صلاح العالم ما أخذ بها ومشي في ضوئها.
ولست أريد الآن أن أفصل ما ذكرت، أو أن أوضح ما أجملت، فحسبي في مقامي هذا الإشارة والإجمال، وفي ذلك بلاغ لقوم يعلمون. إنما الذي أرجو أن ألفت إليه النظر بقوة هو أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت ثورة بكل معنى الكلمة؛ ثورة على العقائد الباطلة، والفوضى الشاملة، والأخلاق الرذلة السيئة. كانت ثورة على هذا كله؛ وإن في بعضه ما كان طيباً في أصله، ثم لما طال به الزمن تغير على أيدي الناس شيئاً فشيئاً، حتى القلب سوءاً وشرا! فما أجدرنا إذاً أن نبحث التراث الذي وصل إلينا، بلا تفرقة بين منبعه وأصحابه، ونأخذ بما فيه من حق، ونثور على ما اندس إليه من باطل فنبعده عنه، وبخاصة في ناحية العقيدة التي بها صلاح المرء وسلامه، والأخلاق التي يتعايش بها الناس ويحكمونها في حياتهم وعامة أحوالهم.
وأرى، قصداً في القول والورق، ألا أتحدث الآن على ناحية العقيدة وما شابها من باطل بفعل بعض المتصوفة وغيرهم من الذين أفسد تفكيرهم فلسفات تلقفوها من هنا وهناك،