لم يكد الفجر يستفيض من وراء الأفق، كما يستفيض الأمل الباسم من وراء الضلوع، حتى استيقظ أهل ذلك البيت الصغير من إغفاءتهم، ونفضوا عنهم بقايا أحلامهم، واستقبلوا نور الفجر الساحر فأشرقت به قلوبهم، وانبسطت له وجوههم، ثم لم يلبثوا حتى كانوا يحفون بفتاة لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، تئن أنيناً خافتاً لا يكاد يتجاوز نطاق صدرها، وقد نطقت حركاتها وأسارير وجهها بما يعتلج في أحشائها من ألم، وما تبذله لقاءه من جهد؛ فكانت تنحني إلى أمامها - من ذلك الألم الممض - فتعتمد على يديها، ثم ترفع كفها لتخفي دموعاً تترقرق في عينيها، والسيدتان الجالستان إلى سريرها تحاولان التسرية عنها، وتخفيفَ همّها، وطردَ الأشباح المفزعة التي كانت تساور خيالها، وتضاعف من آلامها؛ ولم يمنعهما وقار السنّ من أن يصطنعا في الحديث شيئاً من الفكاهة والمرح، يبدد وجوم الموقف. . . ويبعد شياطين الوساوس.
أما ذلك الرجل الفاضل الذي كان ينظر إليها، وإن وجهه ليعبر عن شتى العواطف من الألم والعطف والإشفاق والرجاء، فإنه لم يلبث أن غلبته عواطفه، فقام من مكانه، وذهب إلى غرفة أخرى، وأخذ يدعو الله ويضرع إليه أن يكون في عون هذه المسكينة التي تعاني - للمرة الأولى في حياتها - ما تعانيه كل امرأة مثلها خلقت لتكون وسيلة امتداد النوع الإنساني.
ترى ماذا كان يجول في خاطر ذلك الرجل الذي لبث زماناً لا يحس بعاطفة الأبوة إلاّ حنيناً إليها، ورغبة قوية حافزة في الاشتمال عليها، وهاهو ذا الآن يوشك أن يكون أباً كما صار أنداده من قبل، وهاهي ذي رجولته توشك أن تستوي وتأخذ كمالها بهذا القادم المنتظر؟؟
سبحانك اللهم! جعلت في الإيثار كمال الرجولة، فاتسمت الأثرة بالطفولة، ثم جعلت الرجولة درجات بعضها فوق بعض: هذا زوج يكد لنفسه ولغيره، وهذا أب يرى خير بنيه فوق خيره، وهذا عميد أسرة يتولى أمرها ويكدح لمجدها وينافح من دونها، وهذا زعيم أمة قد اضطلع بشؤونها، وسهر على شجونها، وباع ماله ونفسه في سبيلها، فبل الذروة في الرجولة، وأشرف على أقصى غايات الكمال الإنساني.