أيقولون إن الإنسان أنانيّ بطبعه؟ فما الذي يدفع بالرجل الكامل لأن يكون زوجاً يشرك امرأته في أسباب حياته، وأبا يخلط بين غيره وذاته، وقائداً يضحي بنفسه في سبيل أمته، ومصلحاً ينير لغيره فيطفئ من ذبالته؟ إنما هي غريزة التكمل، فإذا ضعفت تلك الغريزة، فرغب الشبان عن الزيجة، وانصرفوا عن بناء الجماعة، واحتفلوا بخيرهم الذاتي وحده، فقد رجعوا على أعقابهم، ونكسوا على رؤوسهم، وانعكست سنة الخليقة فيهم، فعادوا أطفالاً، وكان من الطبيعي أن يكونوا رجالاً.
تُرى ماذا كان يجول في نفس ذلك الشاب الذي نيّف على الثلاثين، وقد جلس يتمتم بالدعاء، ويرفع يديه إلى السماء، في زي شرقي أنيق، ومحيا مشرق وضئ، لولا ما يرتسم عليه من خطوط فيها من معنى الألم قسط موفور؟
إنما هي مشاعر مبهمة لا تكاد تبين أو تتعين، مترادفة ينسخ لاحقها سابقها، مختلطة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لا تكاد تستقر على عهد من العهود الماضية، حتى تحط على آخر في حدود الغيب المحجوب؛ ولا يكاد يألم لما تعانيه زوجه من ألم المخاض، حتى تنسخ هذه الغاشية موجة من النور البهي الساطع المنتشر من عالم الغيب على نفسه الحائرة بين عالم الغيب وعالم الشهود.
أما تلك المرأة الصغيرة فلعل خواطرها كانت حزينة مبتئسة، أكثر منها فرحة مستبشرة، ملتفتة إلى الوراء أكثر من اتجاهها إلى الأمام؛ تنظر إلى الماضي الماثل أمام قلبها، فتغرورق عيناها بالدموع، فتحاول إخفاءها عمن جلس حولها؛ ثم يعروها الألم فتئن وتتوجع وتنحني انحناءة تستل كل ما في النفس من معاني الإشفاق والعطف والرحمة، وتبعث في القلب كل مشاعر الأسى والوجيعة؛ ثم تنظر حولها فتعود بها الذاكرة إلى الفقيدة العزيزة التي فقدتها منذ بضعة من الشهور قليلة، فلا تزال صورتها تلقاءها، متألقة بنور الحب، محفوفة بمعاني الدموع. . . أمها التي لم تكن تشعر بعطف غير عطفها، ولم يكن لها من القلوب غير قلبها، ولم تكن تدري من صور الحب غير صورة حبها. كانت تلك الفتاة وحيدتها، فكانت تستأثر بعطفها وحنانها. ثم ضرب القدر ضربته الصارمة القاضية، وانتزعها انتزاعة عنيفة قاسية، حين كانت ترجو وترقب أن تستمع بحفيدها وامتداد وجودها.