للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٤ - دعابة الجاحظ]

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

. . . ولعل أهم ما وصلنا من أساليب الجاحظ في السخر والتهكم، تلك الرسالة التي وضعها في التنادر على صاحبه أحمد بن عبد الوهاب الكاتب، وهي الرسالة المعروفة برسالة التربيع والتدوير وقد تعرف أيضاً برسالة الطول والعرض، والتوسع والتدوير، ورسالة المفاكهات، ولكنها ذاعت ونشرت بين الناس وطبعت في مصر ولندن بهذا الاسم الأول، قال الجاحظ: (وقد كان احمد بن عبد الوهاب هذا مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول، وكان مربعاً وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدوراً، وكان جعد الأطراف قصير الأصابع وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه، أخمص البطن معتدل القامة تام العظم؛ وكان طويل الظهر قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعى أنه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة عظم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم؛ وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد؛ وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها؛ وكان كثير الاعتراض لهجاً بالمراء شديد الخلاف كلفاً بالمجاذبة متتابعاً في العنود مؤثراً للمغالبة مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة، والخطرفة عند قصر الزاد، والعجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء، ومغبة فساد القلوب. . . وكان قليل السماع غمراً، وصحفيا غفلا، لا ينطق عن فكر، ويثق بأول خاطر، لا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار المحق، يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لأسم الأدب. . .)

فالرجل - على ما يصف الجاحظ - كان دعياً يبالغ في قدره، ويشتط على نفسه، فيجري في حلبة العتاق وهو كودن، ويطاول السماء وأسبابه لاصقة بالأرض، فكأنه الهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد، فهو يزور على الناس مخبره، ويدلس في حقيقته، ويزعم لنفسه دعوى عريضة لا يد له فيها ولا رجل. . والظاهر أنه بالغ في دعواه وأمعن. وأصر عليها وتهور، قال الجاحظ: (فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا، رأيت أن أكشف قناعه، وأبدي صفحته للحاضر والباد، وسكان كل ثغر وكل مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ

<<  <  ج:
ص:  >  >>