فيها وأعرف الناس مقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به. . .) ولقد استطاع الجاحظ أن يبدي صفحة الرجل حقا، وأن يهزأ به ويبلغ منه، فأخذه بأسلوب لاذع، وغمره بفيض من السخر والتهكم والتعريض، وتندر عليه في منظره ومخبره، وعلمه ومعرفته، وغروره وادعائه، وكذبه وتدليسه، وكل ما زعمه لنفسه. وقد استهل الجاحظ القول في براعة فائقة فقال يغمزه وكأنه يدعو له: (أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك! قد علمت حفظك الله أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة، وضخم الهامة، وعلى حور العين، وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة، والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج. . . ثم أخذ الجاحظ يناقشه في طوله وقصره، وعرضه واتساعه، وتربيعه وتدويره، وقده وخرطه. . . ثم أورد عليه شيئاً من آراء الناس عنه واختلافهم فيه، وحسدهم له!! ثم ابتدأ فقال: فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل وأنت المتقارب، فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول، ما يهمك من أقاويلهم. ويتعاظمك من اختلافهم؟. وهل في تمامك ريب حتى يعالج بالحجة؟ وهل رد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة؟ وهل لك خصم في العلم، أو ند في الفهم، أو مجار في الحكم، أو ضد في العزم؟ وهل بتبلغك الحسد أو يضرك الغبن، وتسمو إليك المنى، أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل يطمع فاضل أن يفوقك، أو يأنف شريف أن يقصر دونك، أو يخشع عالم أن يأخذ عنك؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك؟ وهل زين البليغ إلا مدحك؟ وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟ وهل يقدر الملهوف إلا غباءك؟ وهل للغواني مثل غيرك، وهل للماتج رجز إلا فيك؟ وهل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب، أو عالم أديب، إلا وظلك أكبر من شخصه؟! وظنك أكثر من علمه، واسمك افضل من معناه، وحلمك اثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليم سواك؟ وهل أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق منك؟ وهل حملت النساء أجمل منك؟ فمن يطمع في عيبك بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وهي تشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تنقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك ولا غيور إلا وقد شقي بك!