وكم من فتاة معذبة قد افرج قلبها الحزن، وأجهد عينها الكمد،. . . فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد ظرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساحر، وبعد أن كانت ناراً تتوقد، وشعلة تتوهج!! وليس حسنك أبقاك الله بالذي تبقى معه توبة أو تصح معه عقيدة أو يدوم معه عهد أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه التثبت، أو يتسع للتخير، أو ينهنهه زجر أو يهذبه خوف!! ولكنه شيء ينقض العادة، ويفسخ المنة، ويعجل عن الروية وننسى معه العواقب ولو أدركت ابن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر ابن حجاج)
ثم أمعن الجاحظ في التنادر على الرجل، وراح يتفنن في السخر من حسنه وجماله وخلقه وتركيبه، وبعد أن اقتحمه بنظرة إجمالية على نحو ما قدمنا لك أخذ ينظر إليه في كل عضو من أعضائه فقال:(وما ندري في أي الحالتين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أو إذا جمعنك، وإذا ذكرنا كلك، أو إذا تأملنا بعضك. فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها! وما ندري الكأس في يدك أحسن أم القلم، أم الرمح الذي تحمله أم المخصرة، ام العنان الذي تمسكه، أو السوط الذي تعلقه؟! وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن وأيها أجمل وأشكل؟ آللمة أم مخط اللحية، أم الإكليل، أم العصابة، أم التاج، أم العمامة، أم القناع أم القلنسوة؟! وأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم، ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى أنها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم؛ وأما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي نتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل؟ الحديث أم الشعر، أم الاجتماع أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف؛ وعلى أننا ما ندري أي ألسنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى؟ أقلمك أم خطك، أم لفظك أم إشارتك أم عقدك؟ وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد. . . وقد علمنا أن القمر هو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال، وهو مع ذلك يبدو ضئيلا نضواً، ومعوجاً شختا، وأنت أبداً قمر بدر فخم غمر، ثم هو مع ذلك يحترق في السرار ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحساً كما يكون سعداً، ويكون نفعا كما يكون ضرا، ويقرض الكتان ويشحب الألوان، ويخم فيه اللحم، وأنت أبداً دائم اليمن ظاهر السعادة، ثابت الكمال شائع النفع، تكسو من أعراه وتكن من أشحبه. . .)
وانطلق الجاحظ بعد ذلك يندد بالرجل فيما يدعيه لنفسه من طراوة الشباب ونضارة الإهاب