على أنه كبير السن قد شابت شواته وتخدد أديمه، وسلخ من العمر غايته. وتجد الجاحظ ظريفاً طريفاً إذ يقول:(جعلت فداك ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر؟! كانا ينبهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن، وبأن الدهر يحدث لهما الجدة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما، وغمر طول عمرك أعمارهما، ذلا بعد العز، وهانا بعد الكرامة. . فيا عقيد الفلك كيف أمسيت؟ ويا فوه الهيولي كيف أصبحت؟ ويا نسر لقمان كيف ظهرت؟ ويا أقدم من دوس، ويا أسن من لبد، ويا صفي المستقر، ويا صاحب المسند، حدثني كيف رأيت الطوفان؟ ومتى كان سيل العرم؟ ومنذ كم مات عوج؟ ومتى تبلبلت الأنس؟ وكم لبثتم في السفينة؟ وما حبس غراب نوح؟ هيهات! أين عاد وثمود؟ وأين طسم وجديس؟ وأين أمم ووبار؟ وأين جرهم وجاسم؟ أيام كانت الحجارة رطبة وإذ كل شيء ينطق! ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن النجف، وأي هذه الأودية أقدم: أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة، أم جيحان أم سيحان أم مهران؟. . . أبقاك الله! وليس دعائي لك بطول البقاء طلباً للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول: أطال الله بقاءك فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك فإلى هذا المعنى أذهب. وفيك أمران غريبان، وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور الزيادة والنقصان إياك، جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء، ومع دليل الفناء، فأنت علة للمتضاد، وسبب للمتنافي! فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك، فإن للشيطان في مثلك أطماعاً لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللا لا يجدها في غيرك، ولست - جعلت فداك - كإبليس وقد تقدم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه، ولولا الخبر لما قدمته عليك ولا ساويته بك، وأنت أحق من عذر، وأولى من ستر، ولو ظهر لي لما سألته كسؤالي إياك وإن كان في التجاذب مثلك فهو في النصيحة على خلافك، ولأنك إن منعت شيئاً فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن منع منع بالغش والأرصاد، وأنت على أية حال شكل، ونحن نرجع إلى أصل ونلتقي إلى أب ويجمع بيننا دين)
ويزداد الجاحظ ظرفاً وملاحة، ويشتد تهكما وسخرية إذ يدخل على صاحبه من ناحية علمه، أو قل من ناحية جهله! فقد أورد عليه كثيراً من الخرافات والمحالات وتلقف له جملة مما