هو شائع عند العامة من الأكاذيب والأخبار، وجعل هذا كله من باب المسائل ورؤوس المعضلات، فأخذ يعاييه بها ويسأله عنها: فسأله عن الشقناق والشيصبان، ومن قيرى ومن عيرى ومن جلندي، ومن أولاد الناس من السعالي، ومتى تخزعت خزاعة، ومتى طوت المناهل طي، وما القول في هاروت وماروت، وما عداوة ما بين الديك والغراب، وما صداقة ما بين الجن والأرضة، وما علة خلق الخنزير؛ وكيف اجتمع في الذبابة سم وشفاء، وكيف لم تقتل الأفعى سمها، وكيف لم تحرق الشمس ما عند قرصها، ومذ كم كان الناس أمة واحدة ولغاتهم متساوية، وبعد كم بطن اسود الزنجي وابيض الصقلبي، وما عنقاء مغرب، وما أبوها وما أمها؟ وهل خلقت وحدها أم من ذكر وأنثى؟ ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى. إلى آخر ما تلقفه الجاحظ من الطرائف وبلغ به مائة مسألة كلها من هذا الطراز وعلى هذا النمط، ولعل من المعلوم أنه لم يكن يطمع في الإجابة من صاحبه بل إنه ليقول له:(وقد سألتك وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلا ولا كثيراً؛ فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها وما فيها خرافة وما فيها محال، وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي وابتد بنفي التشبيه والقول بالنداء، واستبدل بالرفض الاعتزال، وان أتنكر منعك بعد التمكين والبذل وبعد التقريع والشحذ فلا يبعد الله إلا من ظلم!)
ولاشك أن الجاحظ قد ابتدع رسالته هذه ابتداعاً، وأتى بها على غير مثال سابق في الأدب العربي، ولاشك أنها قد جاءت قوية رائعة تعلن عن فن الرجل في بابها، واقتداره على أمثالها. ولقد كان الجاحظ على اعتزاز بها غاية الاعتزاز، فأشار إليها بالإكبار، وأحال عليها بالأقدار، واقتبس منها في بعض ما كتب. وقد تأثر بها بعض الكتاب فحاول الخوارزمي أن يحذو حذوها فقلدها في رسالة كتبها إلى أحد أصحابه الشعراء يعرف بالبديهي فبلغ أربا، ولكن دون ما بلغ الجاحظ بكثير. ثم جاء البديع الهمذاني فانتهج الطريق في بعض مقاماته إذ كان يهاجي بعض أصحابه ولكن يظهر أنه نظر إلى الخوارزمي أكثر مما نظر إلى أبي عثمان فسلبه كثيراً من تعبيراته، وخرج من التعريض إلى الشتم، ونزع عن التهكم إلى السب، وبدل التلميح بالتصريح، والمرح بالتجهم، وهذا كله غير ذلك كله، فتعرف الصنفين، وافرق بين الطريقين. . . .