بينا في المقال السابق أن الغزالي رحمه الله لم يستطع أن يحل عقدة النفسية بالتأمل الذاتي فأنقلب ذلك التأمل مرضاً نفسياً مستعصياً وهو ما يسميه علماء النفس المعاصرون بمرض (التأمل الذاتي المستمر).
فزاد ذلك التأمل المستمر في آلامه وضاعف في شقائه وعذابه ولكنه على كل حال كان مؤمناً بضعفه أمام عظمة الله فخاف عذابه ورجا ثوابه فخضع لسلطانه الخضوع المطلق، وأنقاد لأوامره الانقياد الأتم. وقد دفعه هذا اليقين إلى العمل في سبيل نقل آرائه وأفكاره إلى المسلمين ليكون بها في نفوسهم إيمانا كإيمانه، ويقيناً مستولياُ على القلوب كيقينه، فكان له في هذا السلوك تنفيس وتسنام كانا سبباً في احتماله العظيم لمضاضة الحرمان وغضاضة الانزواء والنسيان. وليس من شك في أن أحسن أنواع سلوكه رحمه الله هو كتابة هذه الكتب الكثيرة القيمة. التي أودعها تجاربه وآراءه وأفكاره ومعتقداته لا سيما كتابه النفيس القيم - أحياء علوم الدين - الذي نعتبره من أثمن الكتب الإسلامية في الدين والآداب والأخلاق والتربية وعلم النفس. فقد دون فيه فصولاً متعددة لنتائج تأملاته الطويلة بدأ بعضها بألوان متألقة منسقه وبعضها الآخر بألوان متنافرة مختلفة. فكان في تدوينها خير للعلم وموعظة حسنة للتحليل النفسي والتأمل الذاتي.
ولنأخذ الآن بعد هذه المقدمة كتاب الأحياء الذي أودعه الغزالي نتيجة مجهوده الفكري وصفاوة تأمله النفسي فندرسه دراسة تصل بها إلى ما رمينا إليه من غرض، والله الموفق لما فيه الخير.
لا يزال علماء النفس مختلفين في ما هية العقل وحقيقته فلهم آراء كثيرة متضاربة ولكنهم جادون في البحث عن هذه الحقيقة. ونحن وإن كنا لم نقف لعلماء النفس إلى رأي إجماعي في موضوع العقل. فقد رأيناهم يعتبرون اللاشعور أو العقل الواعي بمثابة أجزاء للعقل، فالعقل في نظرهم هو اللاشعور بخيره وشره وهو الشعور بحلوه ومره.
ليس فيه هذا شيء غريب ولكن الغريب كل الغرابة أن يتفق رأي الغزالي في العقل مع