للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وأخيرا ظهر القائد المنتظر]

كانت بلية العظمى أن تزعمها نفر من المحامين صناعتهم الجدل، وبضاعتهم الوعود، ووسيلتهم الخطب، وغايتهم المناصب. أكثرهم يقولون الحق ويفعلون الباطل، ويذكرون الأمة ويريدون الغنيمة؛ وأقلهم يطلبون التحرير، ويرغبون الإصلاح؛ ولكن قصارهم أن يخطبوا ما أسعفهم الريق، وإن يكتبوا ما واتاهم المداد، وإن يتظاهروا ما أمكنتهم الفرص، وإن يهتفوا ما أطاعتهم الحناجر! ثم أحترف الطماعون مهنهم الدفاع عن القضية الكبرى لأنها أوفر ربحا وأيسر كلفة، فكان من غرضهم أن تعرض، ومن مصلحتهم أن تطول! ثم أنقلب هؤلاء المحترفون صيادين في بحر زاخر بالخلاف والفساد والفوضى، بعضهم يطمع في اللآلئ، وبعضهم يقنع بالجيف؛ والشعب المظلوم المحروم يصارع الأمواج الرُّعن، ويجابه الصخور الصم، ويستغيث أفلا يرى ألا الشباك الجارفة تغرق أشلاءه وتجمع أسلابه! وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ويحسب كل عامة خاصة نشَّأته جدودنا العواثر تنشئه الوارث العابث المتبطل، فلم ينل ما يناله الإنسان العادي من التربية والتعليم، وإنما ثقفه الفراغ في الرأس والنفس والضمير ثقافة الفجار من أمراء بيته، فصاد الطير وقاد السيارة ولعب الورق أطلق المسدس!

كانت غاية همه أن يغني وإن يطغى وإن يحكم. ولم تكن غايته من الغنى أن يخفف شدة الفاقة عن رعيته، ولا من الطغيان أن يكفكف شرة الحزبية عن أمته، ولا الحكم أن يواجه سير النهضة في بلاده. إنما كانت غايته من الرغائب الثلاث السرف والترف والفحشاء والمنكر والبغي!

تناصر هذه الملك اللاهي وأولئك الساسة المحترفون على إذلال هذه الأمة ففرقوا كلمتها، وعوقوا نهضتها. وبددوا ثروتها، وسوءوا سمعتها، ودفعوا بها إلى هواة من هوى الفساد لا سبيل لها لنجاة ولا بصيص فيها لأمل. فلم يكن بد من أن يظهر في مصر مصطفى كمال ليعيد الروح إلى الجسد الميت، ويرد الكون إلى النظام الفاسد! وما محمد نجيب ألا الرجل الذي ادخره الله لهذا اليوم لتنكشف به غمة، وتحيا بفضله أمة، وينصلح على يده عهد ويبتدئ بإسمه تاريخ! وان مصر التي حلمت به كثيرا في ليلها الطويل، وانتظرته طويلا في سجنها المظلم لترجوا منه أن يكون لها ما كان كمال من تركيا: يطهر الحكم كما طهر الملك، ويرفع الشعب كما رفع الجيش، ويقيم الدولة والحكومة والأمة على أسس جديدة من

<<  <  ج:
ص:  >  >>