الأستاذ بجامعة كونيكسبرج، والأستاذ بالجامعة المصرية
- ٢ -
قدمنا في محاضرتنا الأولى بضع ملاحظات على الطريقتين الشرقية والغربية لدرس تاريخ الفقه الإسلامي، وأبدينا الكلام عن بعض مسائل متعلقة بعصرين هامين من تاريخ الشريعة: العصر التمهيدي وهو ما قبل الإسلام، والعصر الأساسي وهو زمن فقهاء المدينة السبعة. وتتناول محاضرتنا هذه دوراً ثالثاً: الدور الذي تكونت فيه المذاهب. فأول من أسس مدرسة في تاريخ الشرع الإسلامي هو - كما نعلم الآن - محمد بن إدريس الشافعي. وكونه المؤسس لعلم حقيقي في الفقه أمر يظهر بجلاء من كتابه الموسوم بالرسالة في أصول الفقه الذي بحث فيه عن طريقة هذا العلم، كما يبدو من النظام الباهر الذي وضع عليه الشريعة في كتابه الكبير المسمى (بالأم) وفضله هو أنه بعث اليقظة في الفكرة الفقهية الإسلامية، وأنه لا يبرهن عند الحاجة إلى الدلائل وابتغاء الوصول إلى نتائج عملية فقط، بل يبرهن دائماً ومبدئياً، وأنه يبحث أيضاً عن شروط الاحتجاج التشريعي وطرقه بوجه عام. وكتابه العظيم يتيح لنا إدراك طبيعة فكرته الفقهية وعناصرها إدراكا تاماً ويمكننا من مقابلتها بآرائه في طريقة علم الفقه المعروضة في كتاب الرسالة، وخاصتها البارزة هي الدقة والجلاء اللذان يحملانه على مخالفة كثير مما كان مسلماً به قبله دون أن يضيق بهذا أفق تفكيره، ودون أن يحصر نفسه في دائرة مخصوصة، فأن اجتهاد الشافعي ليتجه على الأخص إلى تنظيم الفقه؛ ونراه يعمل بلا انقطاع على إيجاد تماسك بين الأحكام المنفردة وعلى التحاشي عن أي تناقض بين نتائجها الأخيرة؛ ومهما يكن من أمر السابقين واللاحقين في هذا الشأن فإن الشافعي كان له أعمق الأثر في تنشئة طريقة القياس التي ظلت من مميزات علم الفقه؛ ونقصان التعريفات والتحديدات القانونية الفنية في الشرع الإسلامي يتصل مباشرة بالدور الحاسم الذي يقوم به القياس. من الطبيعي جدا أن ذلك النجاح العظيم