من توخى أن يعرف الحقيقة كلها في حوادث هذين الشرقين السياسية استدعى هذا الغرض النبيل أن يرجع صاحبه ولو قليلا إلى التاريخ: لأن الزمن سلسلة متصلة الحلقات يرتبط فيها الحاضر بالماضي ارتباط المسبب بالسبب، ويرتبط بالمستقبل ارتباط السبب بالمسبب؛ ويرتبط بالمستقبل ارتباط السبب بالمسبب؛ ويستدعي هذا الغرض أيضاً كل الالتفات إلى عوامل المصالح الاستعمارية والسياسة الدولية في الشرق
ومهما يكن شأن التطورات الاجتماعية والانقلابات السياسية المختلفة، وشأن التوازن الجديد بين الدول العظمى التي تتوزع بأعيننا وأسماعنا أقطار هذه الكرة الأرضية وشعوبها؛ ومهما يكن لتقدم العلم والفن ولتطبيقاتهما العملية من أثر في النفوس والعقول، يبقى التاريخ بأنواعه الشتى مرآة الحياة البشرية، ونبراساً ينير البصائر لبقاء السنن الأساسية العاملة في البشر ما بقيت جبلتهم على ما هي منذ نشأة الإنسان الأول. وليس يوجد سبب غير وهمي، وإن صدق أفراد فضلاء في تمجيد المثل العليا، وفي اعتقادهم سمو الإنسانية نحوها، يثبت أن القوى سوف لا يستغل الضعيف ولا يحاول أن يبقيه مقيما على الضعف بالنسبة إليه ليحفظ قدرته ومصلحته بالقوة أو بالتمويه والرياء
فمن التاريخ أن الإسكندر الذي مزق إمبراطورية الفرس لم تدم فتوحاته، ولكن كان من نتائجها أن عرف العالم الغربي طرقاً إلى الغزو، وقد التفت إليها نابليون وهو يضع مشروعاته المختلفة لمحاربة الإنجليز في الهند. أما الرومان فقد أظهرت معاركهم في الشرق الأدنى قيمة دجلة والفرات من حيث هما طريق إلى غزو فارس والخليج الفارسي والهند. وأدركوا أن الثروات الأسيوية لم تكن في جزيرة العرب ولا في أثيوبيا، بل كانت تنقل من الهند فاتجهت جهودهم إلى التسلط على شواطئ هذه الجزيرة
قام اليونان والرومان وحدهم في أيامهم بالتوسع الأوربي في الشرق الأدنى. على أن أمم أوربة الغربية كانوا متصلين بآسية منذ عهد قديم بوساطة المسيحيين الكثيرين الذين ظلموا يحجون الأماكن المقدسة. ولما جاءت الحروب الصليبية نشأت إمارات مسيحية في سورية