نزعة الأدب في نفس الأديب المطبوع، أشبه شئ بالغريزة الإنسانية. فهي قوة كامنة فيها، تتحرك من تلقاء نفسها، وتقوم بعملها الحيوي في حياة الأديب. فتقرأ وتستقرئ وتطلع وتتصفح، وتختزن وتقرن، وتمزج ثم تلد وتصور وتلون، وتهب لأجنتها ما تشاء لها مقدرتها من أسباب القوة والبقاء. ثم تدفع بنتاجها إلى اللسان فينفثه سحراً حلالا، أو إلى القلم فيبعثه زهراً وضيئاً، ترى من خلاله حياة نابضة، وروحاً متحركة، تلعب دورها، وتؤثر أثرها.
والغريزة بحاجة إلى التربية والتهذيب والتثقيف، حتى توجه إلى خير السبل لإسعاد المرء وإسعاد مجتمعه. ولا يبعد عنها في ذلك، نزعة الأدب، فهي بحاجة إلى أن تتعهدها يد التربية والتهذيب والتثقيف، وإلى أن يسلك بها مسالك ثقافية خاصة، حتى تفره وتحذق، ويتسع أمامها المدى ويرحب أفقها، ويلطف حسها ويدق إدراكها. وكلما كان الأديب أكثر من غيره ثقافة، اتسع رحابه، وسما إنجابه، وأشرق وأمتع فنه.
غير أن النزعة الأدبية، مهما كانت طاغية باغية، ثائرة فائرة، يقظة ساهرة، قد يصيبها العثور ويغشيها الفتور، فيخبو زندها، ويكبو جوادها، ويتطامن إنتاجها، وتقل الروعة في فنها. حتى تتاح لها منشطات تنهض راكدها، وتنبه راقدها. وتثير فيها من جديد مظاهر الحياة الصحيحة والحركة. ولعل هذه الناحية أقوى وجوه الشبه بينها وبين الغريزة، إذ لولا ما يعرض للغريزة من مثيرات ودوافع، لعانت ألواناً من الكبت، قد تفضي بها إلى الموت.
وتتشبث النزعة الأدبية - ككل كائن حي - بأسباب بقائها. وقد درجت الطبيعة على أن تبذل لها بين الحين والحين، من أسباب البقاء ما يذكى فيها عوامل الأمل والرجاء. وحينذاك تندفع في طريقها جادة نشيطة مجاهدة مجالدة، حتى تؤدي رسالتها في الحياة.
وقد درجنا، ونحن ندرس تاريخ الأدب العربي، على أن نسمع بين الآن والآن، بضروب من التشجيع - أو قل بألوان من أسباب البقاء - تتاح للنزعات الأدبية؛ فمن عطية أمير، إلى منحة وزير، إلى ثقافة حافلة إلى آذان صاغية وقلوب واعية، إلى حوافز من صداقات