وانه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه في ذلك اليوم ومن حوله العلماء والأكابر يشهدون الدرس الأول لذلك المفكر المبدع. وهو يحرص على تدوينه كما يحرص على تدوين الأثر الذي يعتقد أنه أحدثه إذ يقول:(وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار). وفي ذلك ما يدل على ما كان يشعر به ابن خلدون من كبرياء وثقة من أنه كان شخصية ممتازة تجب أحاطتها بمظاهر خاصة من التكريم والرعاية. ثم كانت الخطوة الثانية في ظفره بمناصب الدولة، وتعيينه قاضيا ًلقضاة المالكية في أواخر جمادى الآخرة سنة ٧٨٦ (أغسطس ١٣٨٤م) مكان القاضي المعزول جمال الدين بن خير السكندري. وكان ارتفاعه إلى هذا المنصب الذي هو رابع أربعة تعتبر من أهم مناصب الدولة إيذانا بوثوب العاصفة من حوله، واضطرام تلك الخصومات التي كدرت صفو مقامه، وادالت نفوذه، واقتلعته من المنصب غير مرة. يقول ابن خلدون في سخرية:(وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية. فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه. فتفاديت من ذلك، وأبى الا مضاءه). وقد عرف ابن خلدون هذه (النزعات الملوكية)، وعرف أنها تبطن من الشر والنقم في معظم الأحيان أكثر مما تسبغ من العطف والنعم. ولكنه يريد أن نفهم أن ارتفاعه إلى منصب القضاء لم يكن نزعة ملوكية فقط. وإنما أختاره السلطان كما يقول (تأهيلا لمكانه وتنويهاً بذكره).
ونستطيع أن نقدر أن ولاية ابن خلدون لخطة القضاء لم تكن حادثاً عادياً، فقد كان أجنبياً. وكان تقدمه في حظوة السلطان، وفي نيل الناصب سريعاً. وكانت مناصب التدريس والقضاء دائما ًمطمح جمهرة الفقهاء والعلماء المحليين؛ ولم يكن مما
يحسن وقعه لديهم أن يفوز بها الأجانب الوافدون دونهم. وإذا فقد تولى العلامة المغربي منصبه في جو يشوبه كدر الخصومة والحسد. وجلس بمجلس الحكم في المدرسة الصالحية بحي بين القصرين، فلم يمض سوى قليل حتى ظهرت من حوله بوادر الحقد والسّعاية