تناولت منذ يومين رسالتك التي أثمرها صمت سنين خمس لم أتلق طوالها كلمة منك، ولا نبأ عنك - بمزيج مبهم من العواطف والأحاسيس. وأدركت - كما تدرك بعض الحقائق الخفية - أو المنكورة في بعض المناسبات - أن كثيراً مما نعتبره مبالغة قد يقع ويظهر لكل عين مجردة كحقيقة عارية، كما يصبح كثير من الوهم أو الخيال مخترعات تحس وتلمس، إذ أن محيط الحياة خفي الأمواج، وخفاء الأمواج يلد العجائب!
لقد كنت أحسبه مبالغة قول من يقول:(إن وصول خطابك قد أعاد إليّ بصري كما أعاد قميص يوسف الضوء إلى بصر يعقوب الحزين الكظيم).
فعرفت بعد ورود خطابك إليّ أن في هذا القول كثيراً من الحقيقة، وأن البصر قد يكون حاسة من الحواس الخمس وقد يكون نوراً ينبعث وهاجاً في القلب، والخاطر، والنفس، وأن بعض الانفعالات قد تسمو وترتقي فتمسى عند صاحبها أقوى من البصر، وأعظم من نفس الحياة. . .
لم ترد يا صديقي أن تكتب إليّ بالتحية، ومحوتها سلفاً من جبين كتابك مدركاً أن التحية إذا ألقيت مجاملة كانت نافلة وعملاً بين الصحاب غير نافع، وإن قصد بها التعبير عن الشوق فتحصيل حاصل. فليس بمنكر أن سنين خمساً لجديرة بأن تلهب قلبي صديقين مخلصين لم يتساقيا من كؤوس الود إلا أصفاها عنصراً وأحلاها مذاقاً وأبقاها أثراً.
ولكم كنت لبقاً وأريباً. وكانت كلماتك مؤثرة حين ذكرتني بعهدي الأدبي الخالي، وأيامه ولياليه الصافية المورد، والساعات التي كنا نمضيها باحثين في فنون الأدب، منتجين أبطال قصصنا، نراهم تحت أسماعنا وفي محيط أبصارنا يعيشون قطعاً من أكبادنا وخفقات من قلوبنا، ودمي تملؤها عواطفنا دماً وروحاً، فينبعث فينا شعور بالرضا والغبطة إن لم يصل إلى غبطة الإله بمن خلق - سبحانه - فهي تسمو وتعلو عن غبطة الوالد عند مرأى أبنائه ونماء فلذات كبده. . . لأن نظرة الأدب إلى أبنائه، وإرهاف أذنيه إلى أحاديثهم يغمرها الحنان الأبوي الغريزي فيعطل فيهما نواحي التفكير ويفسد عليهما حسن التقدير. أما أبناؤنا