للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الكتب]

في الصيف لطه حسين

(في الصيف) بعد (الأيام) دليل بعد دليل على ملكة أخرى كانت مجهولة في هذا الذهن العجيب! فقد كان عهد الناس بصديقنا طه عالما غزير البحر، وباحثا جريء الرأي، وناقدا نافذ البصيرة، وجدليا دامغ الحجة؛ أما الكاتب الذي يستشف بالإلهام حجب الغيب، وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحيي بالعاطفة خمود الفكرة، فظل مغموراً بين الأديب الذي يبحث في ضوء العقل، والأستاذ الذي يدرس في حدود العلم، فلم يكد يظهر الا في صفحات من ذكرى أبي العلاء نسي فيها المعري وذكر نفسه، وفي مقالات نشرت في السفور صور فيها عواطفه وحسه، حتى نشرت (الأيام) فعجب الناس أن يكون وراء هذا العقل المتمرد هذا القلب الشاعر، واقبلوا في دهشة يتعرفون إلى طه التلميذ والأخ والزوج والوالد، ويتحدثون إليه في منازله ومباذله وبين أهله، فيجدون من اللذة في أحاديثه، أمثال ما وجدوا من الفائدة في بحوثه، ثم جاء كتاب اليوم قاطعا في الدلالة على بلوغ هذه الشخصية الأدبية الغاية في كل ناحية من نواحي الأدب، حتى الناحية التي لا يغنى فيها الخيال عن الواقع، ولا السماع عن النظر!

قرأ (في الصيف) أديب كبير فطلب إلى طه في شيء من الدعابة أن يترك العلم إلى القصص، وتقرأ أنت (في الأدب الجاهلي) فتقول هذا اختصاصه وتلك مادته، ولعلك إذا سمعته يحاضر أو قرأته يناظر تقول هذا عمله وهذه غايته. وأبلغ آيات العبقرية أن تكون في كل مادة أصيلة، وفي كل موضوع سامية، وفي كل غاية مبرزة.

طه قصصي من طراز خاص، أو هو لم يشأ إلى اليوم أن يكون على غير هذا الطراز. فالأيام وفي الصيف طوائف شتى من الذكريات والتأملات والملاحظات أنثالت في وقت الفراغ على ذهن شديد النفاذ، وفكر دقيق الملاحظة، وشعور صادق الحس، ثم ألف بينها خيال كروح المنطق فيه لذة وفيه عقل، وأبان عنها أسلوب كأسلوب الحديث فيه طلاوة وفيه فضل، ثم تقرأ قليلا وإذا بك متصل بالكتاب، مغمور بشعوره، مسحور بحديثه، مشغول بتفكيره، يخرج بك من موضوع إلى موضوع، وينقلك من موضوع إلى موضوع، دون أن يدع لك السبيل إلى استرجاع الذكريات التي هاجها بذكرياتها، واستقبال الخواطر

<<  <  ج:
ص:  >  >>