للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ذكرياتي في بلاد النوبة:]

إلى عُنيبة!!

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

ما كاد القطار يتحرك من أسوان متجها إلى الشلال. حتى أحسست وزملائي براحة لا تدانيها راحة، وهدوء لا يماثله هدوء فقد مكثنا بأسوان خمسة أيام بلياليها على الرغم منا، إذا إننا لم نجد أمكنة في الباخرة التي ستنقلنا إلى هذا المكان النائي البعيد في بلادنا المصرية.

وعجيب أن نشعر بالراحة والطمأنينة، ونحن في طريقنا إلى بلدة لا نعرف عنها شيئاً، ولا ندري من أمرها لا ما يرغب عنها مما استمعنا إليه من أفواه المتحدثين - ولكن هذا دائما شعور كل مسافر فانه يود أن يصل إلى غايته بأي ثمن.

ولا يمكنني بوجه من الوجوه أن اعبر عن مقدار الرهبة التي سيطرت علينا، والخوف الذي ملا قلوبنا عندما وصل القطار إلى الشلال. وعندما شارفنا النيل، باتساعه وروعته. . . ووقف القطار وزكمت أنوفنا رائحة الشواء العجيب. . شواء السمك، والطعمية وألوان مختلطة الملوثة بالتراب، والرمال التي تهب مع الريح من فوق السفح والجبل من هنا وهناك. .

وركبنا الباخرة البطيئة (توشكي) وهي إحدى البواخر المصرية التي استولت عليها الحكومة السودانية ظلما سنة ١٩٢٥، وأخذنا أماكننا في ثلاث مقصورات متجاورة، وسارت الباخرة في الثانية مساءاً رويداً رويدا، تشق صفحة الماء في بطئ، وكأنما هي شيخ محطم أثقلته الخطوب، وآدته فوادح الزمن، فمضى يعدو، ويجمع قواه المتهدمة ويلهث ويحشرج، ومع هذه تخونه دائماً قواه، ولا يحصل من هذا كله إلا على ما يكفيه ليسير بطيئاً متئد الخطا، كأنما يجر وراءه جبال الدنيا بأرسان من حديد. .!

يا لله: إننا لا نري من هنا أو هناك، سوي جبال شامخة، ينهي تلول من الرمال. . ما أروع هذا المنظر العجيب. . جبال مسراء، وأخري حمراء قانية، وبينها رمال مناسبة منحدرة، تخالها أنهار من الذهب الوهاج.!!

وهنا وهناك على الشاطئ من الجانبين نجوع تختلف باختلاف طبيعة الأرض، فهذا نجع

<<  <  ج:
ص:  >  >>