للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يرتفع عن شاطئ النيل بمتر أو مترين على الاكثر، ويحتضنه الجبل في حنان ودعة، كما يحتضن الأب الرحيم ولده في حرارة الشمس اللاذعة خشية أن تفتك به، وتضربه ضربة لا يفيق منها مدى الحياة.

وهذا نجع آخر يسير مع الشاطئ في تتابع وتناثر. . بيوت متواضعة متفرقة أن صح أن تسمي هذه الأكواخ المتواضعة بيوتا وتسير مع الشاطئ ألفي متر أو تزيد، بيد إنها ليست عريضة عامرة بالسكان، آهلة بالناس، ولكنها ضيقة لا تكاد ترى فيها أثراً من الحياة، اللهم إلا أشباحاً هزيلة ضعيفة، تبدو عليها آثار الفاقة، وسيما الضنى واللوعة، والأسى والهمود.

وهذا نجع ثالث تخاله ميتا لا يتنفس فيه حي، ولا يعيش فيه مخلوق، ولكن الباخرة إذا توقفت وارتفع صفيرها في الجو، انبعث الرجال والنساء من كل حدب وصوب يتلقون (القافلة). التي تسير في عرض النيل على بركة الله، تحمل لهم الزاد والمؤن، والكسى والمتاع. . أنهم ينتظرونها مرة في كل أسبوع قادمة من الشلال، ومرة أخرى قادمة من حيفا، وفيها البريد. . حتى إذا أرتفع لها في الهواء دخان، وعلى لها صوت، انطلقت الحناجر مدوية من هنا وهناك، في فرح ومرح وبشر وسرور، فهذا موعد الرسائل من الأحباب والأزواج. . . والأباء والأعمام.

أجل فأهل هذه النجوع يحيون وأكثرهم نساء مترملات أو في حكم المترملات، فهن لم يفقدن العائل بالموت، ولكنهن فقدنه بالبعد والفراق، وطول المسافة التي يضل فيها الرسول، والنوى الذي يكاد تتقطع معه في سبيل الوصول واللقاء. .

وهذا نجع رابع - ومثل كثير - مرتفع جدا، فهو على ارتفاع خمسين مترا تقريبا من سطح النيل، على ربوة مرتفعة صخرية، عليها المساكن شامخة على الرغم من حقارتها، عزيزة مع ما هي فيه من ضآلة الشان، وقلة القيمة. أن الباخرة لتقف أمام هذا النجوع كأنما هي ليست حقيرة تستجدي الاكف، وتطلب من الناس المعونة والإحسان.!

يا لله! ما اعجب هؤلاء الذين يقبلون من فوق الجبل من الرحال والنساء، والبنات والأولاد الصغار في سرعة عجيبة، يقفزون من فوق الصخور، على مسافات شاسعة، بسرعة توقعك في الحيرة والخوف، تضن بأن أحدهم سينحدر إلى الهوة العميقة لا قيامة له منها، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل. كأنما بينهم وبين هذه الصخور المحدبة الدقيقة عهد وميثاق،

<<  <  ج:
ص:  >  >>