للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا تؤذي أحد منهم أو تناله بمكروه. وما اعجب مظهرهم وهم يفدون زرافات ووحدانا في ثياب بيض، وعمائم مثل الثياب. تتماثل كلها في طرازها وهيئتها وحياكتها. . وما الثوب إلا قميص له جيب واسع، وأكمام فضفاضة والعمامة مكورة في ضخامة تأبى القلة، وتأنف من البخل والتقتير، ومن تحت العمامة ترى هذه الوجوه السود، وتلمع تلك الأسنان الناصعة البياض، وتلك العيون الحوراء. وتلوح من جيب القميص تلك الصدور السود. ومن اسفل القميص تلك الأرجل المفلطحة. . إنه لمنظر يستهوي الأفئدة. ويسبي العقول، وخاصة تلك السذاجة التي تدفعك دفعا لاحترام هؤلاء، أو بالحرى الرثاء لحالهم، والإشفاق بهم، والعطف عليهم اجل. فانك إذا تفقدت احوالهم، واطلعت على مواردهم، أخذ العجب منك كل مأخذ وملكت الدهشة عليك عواطف. ووجدت تنفسك متسائلا في إلحاح: من أين يعيش هؤلاء؟

لن تجد جواباً شافياً على تسائلك، سوي الإيمان المطلق والتسليم المطلق. الإيمان بالله الخالق الاكبر، والتسليم المطلق الذي لا ينسي، ومحال أن ينسي عبدا خلقه وسواه، وشق سمعه وبصره، فخالق الكون كفل الرزق والحياة لكل فرد، مادام له عمر ممدود، أجل محدود، كان من كان، صدق الله العظيم. (وفي السماء رزقكم وما توعدون).

وكأني بهذا الشيخ المقبل من نجع (السبوع) لغاية في نفسه، فما هي يا ترى هذه الغاية؟ أن منظره ليثير في النفس عوامل الأسى واللوعة، والشفقة والحزن. . إنه قد جاوز الثمانين دون ريب. . أحناه الدهر فكأنما هو قوس متحرك. يتوكأ في بطئ شديد على عصاه. وكأنما هذه العصا رجل ثالثة يدب بها على الأرض، لارتيابه في رجليه واعتقاده أنهما لم يحملاه إلى ما يريد، ومع ذلك فهو يهرول بشدة، ولكنه لا يبلغ السرعة التي يريدها ويتمناها، فأن أنفاسه منقطعة، وعبثه شديد الوطأة، اليم الخطر. .

ويلاه. . لقد وصلت الباخرة ورست على الشاطئ أمام نجع (السبوع) ووصل الشيخ المتهدم إلى المرفأ، وجلس متكئاً على عصاه أيضاً، واعتمد برأسه عليها في اطمئنان عجيب. . ولكنه لم يسافر؟ ولم ينزل إليه من الباخرة أحد؟ حتى من نزل لم يعرج عليه. . ترى أكان ينتظر بريداً؟ أم تموينًا؟ أم عزيزاً لديه من ولد أو حفيد؟ لم يبدو عليه شيئاً من ذلك، يبدو أن ملامحه كانت تنطق بشيء خفي غريب ذلك إنه يأنس بالباخرة وأصوات من فيها، ويطرب بذلك الهرج الذي يحدثه الركاب حينما تقف بين حين وحين. إنها تذكره بعهد

<<  <  ج:
ص:  >  >>