يرى المتجول في مديرية جرجا قرية (باصونة) الصغيرة، حل بها لفيف من العرب الخلص الذين ينتمون إلى قبيلة جهينة وهي إحدى القبائل العريقة التي نزحت من الجزيرة العربية إلى مصر في حقب مختلفة وما زالت تنتقل في ربوع الوادي حتى استقر بها المقام في أعلى الصعيد
ومنذ ثمانين عاما كان بهذه البلدة الهادئة بيت مرموق المكانة يقصده الوافدون للتبرك بصاحبه الصوفي الزاهد (عبد المطلب واصل) فهو شيخ وقور تنتظم في بيته حلقات الذكر وتهب لديه النفحات الروحية الصافية، ثم هو عالم متفقه في دينه يعظ الناس كل مساء بما وعاه من الكتاب والسنة، فيهز أوتار القلوب. ويأخذ بمجامع العقول، هذا إلى عربيته الخالصة ونسبة الصريح.
ولد شاعرنا الكبير سنة ١٨٧٠ في هذا البيت الطيب، فتربى تربية دينية قويمة. وطبع منذ نعومة أظفاره على الخلال العربية الحميدة، وطبيعي أن يسلمه والده إلى معلم القرية فيحفظ القرآن الكريم، ويلم بقواعد القراءة والكتابة، حتى إذا فرغ من ذلك أمكنه من الفقه الإسلامي والحديث النبوي فارتشف ما قدر عليه من معينهما الرائق، ثم أنس من نفسه المعرفة فجلس يعظ الناس مكان والده، وهو يعد في مبدأ العقد الثاني من حياته الزاهرة، فكان من يسمعه في هذه السن الباكرة يؤخذ بلباقته الفائقة، ويدعو له بالنجاح والتوفيق.
وكان العارف بالله الشيخ إسماعيل أبو ضيف شيخ الطريقة يزور مريده (عبد المطلب واصل) في (باصونة) من حين إلى آخر، فشاهد نجله الصغير يعظ الجمع الحافل كعادته، وهو لا يزال طري الأملود غض الإهاب، فتوسم فيه النجابة والذكاء، وزاد به إعجابه فعرض على والده أن يصحبه إلى القاهرةحيث يرتشف العلم الغزير من منهله الرائق بالأزهر الشريف، وكانت فكرة حميدة تلقاها الوالد بالترحاب والقبول، ولم يمض زمن وجيز حتى كان الواعظ الصغير طالباً بالأزهر يقضي فيه بياض نهاره، فإذا جنه الليل توجه إلى منزل حاضنه الشيخ إسماعيل فلازمه حتى الصباح.