وإذا كان الفتى قد شهد مجالس التقوى في صورة مصغرة عند والده بالصعيد فانه في منزل حاضنه الأكبر الشيخ أبى ضيف يرى الصورة المكبرة لهذه المجامع العامرة، ويستمع إلى القصائد الصوفية التي تنشد في الحلقات كل ليلة، فيحس لها رنيناً مشجياً يدعوه إلى تفهمها واستظهارها حتى كونت لديه ملكة حساسة تطرب للتوقيع الجميل، وتتذوق المعنى الرائع، ومهما يكن من شيء فقد كانت هذه المقطوعات الصوفية أول حافز دفعه إلى الانكباب على الدواوين الشعرية في ميعة صباه يستوضح غامضها ويتفهم معانيها حتى خلقت منه فيما بعد شاعراً فحلاً جزل العبارة فخم الأسلوب!
ولقد كان الطالب الأزهري مبرزاً بين لداته، مشمولاً بعطف أساتذته ومشايخه. إذ أن المبادئ الفقهية التي حصلها عند والده قد مهدت له أسباب التفوق والنبوغ، ودفعته إلى التحصيل في لذة وشوق، فاخذ يستوعب كل ما يلقى عليه أتم استيعاب حتى نضج عقله في مدى سبع سنوات قضاها في الأزهر المعمور، ثم هو لا يكتفي بما يأخذه من دروس قيمة في اللغة والدين بل رتب لنفسه جزاءاً خاصاً من رائع الشعر العربي يحفظه يوماً بيوم، حتى خرج من الأزهر إلى مدرسة دار العلوم سنة ١٨٩٢م وعنده من غرر القوافي ثروة ثمينة ساعدته على النظم في مختلف الأفانين الشعرية، وجعلته يثق بنفسه ويعتد بملكته اكمل اعتداد.
ولقد هيأت له الظروف في سنته الأولى بدار العلوم فرصة طيبة لمع فيها نجمه، فقد وقف يرثي فقيد المعارف علي باشا مبارك في حفل عام أقيم لتأبينه فأتى بالرائع المعجب من الأبيات الرصينة، وخرج أساتذته وزملائه الذين سمعه ينثرون عليه أكاليل الثناء، ويضربون به المثل في قوة الشاعرية وصفاء القريحة، مما حفزه بقوة إلى الإطلاع الدائب، والإنتاج الثمين.
وكان المرحوم الأستاذ الشيخ سليمان العبد إذ ذاك مدرساً في دار العلوم وله ميل شديد إلى النظم. فكان لا ينشئ قطعة إلا عرضها على تلميذه مستنيراً برأيه أمام زملائه، وكثيراً ما ينزل على إرادته فيحذف ويثبت كما يملي عليه تلميذه الناشئ، فإذا ما نشر قصيدته - وكان دائماً يكتب في الوقائع المصرية - قرأها على تلامذته معترفاً بما لعبد الطلب من أثر جميل.