رمى الكثيرون الشعر العربي بالعجز والقصور عن متابعة الشعر الغربي في القصة والملحمة والرواية التمثيلية؛ ولكن ناظم عبقر ضرب لهؤلاء المثل الحي على العيب واقع على عاتق الشعراء أنفسهم لا على اللغة ولا الشعر. ولقد ظلت عبقر مدى العصور تتردد في ألفاظ كثير من الشعراء ولكن لم يفكر واحد منهم في أن يخرج لقراء الضاد قصيدة عنها بقدر ما توحي إليه من خيال؛ كأنها أبت أن تكشف سترها وتميط اللثام عن حقيقتها إلا لهذا الشاعر المحلق في سماء الجمال، فحمله شيطانه إلى عبقر، وأوديتها السحرية؛ وهناك كشف له سر الحياة، فوقف على المجهول من أمرها، حتى إذا عاد إلى دنياه صوره بلغة الأرض؛ فأبدع في ذلك ما شاء له الإبداع، ورسم هذه العوالم الدفاقة بالسحر والخيال وقربها إلى قارئيها فإذا هم يعيشون ويتحركون ويتنفسون فيها، وإذا هم يحيون في مهابط الجن، ويقضون مع حورها لحظات لا يحسون فيها لغب الواقع، ولا تعب الحياة وأوضارها، ولست أدري أيهما خلد الأخر: هل خلق شفيق عبقر، أم هي التي خلقته؟
حمله شيطانه إلى عبقر ذلك الشيطان الذي:
في فمه من سقر جذوة ... يطير منها الشرر الثائر
ووجهه جمجمة راعه ... أنيابها والمحجر الغائر
كأنما محجرها كوة ... يطل منها الزمن الغابر
ويمضي الشيطان بصاحبه إلى عبقر ليريه (جنا من النور جلابيبها) وإذ يهبط الاثنان عبقر، يرى الشاعر (الغمائم الزرق) وفي أبراج المنازل (تثور ضجة بها يضيق الأفق الأوسع) ثم يحيط به الشيطان عند عراقة عبقر فإذا بها عجوز شمطاء طواها الكبر، ولقد أبدع الشاعر أيما إبداع في وصفها بقوله: