رآني مرةً صاحبٌ لي آكل لحماً نيئاً، فاستغرب، وسألني عنه كيف أجده؟ قلت: أطيب ما يكون، فأبى أن يصدّق، وذهب يكابر، وجعل يسأل:(كيف تستطيبه وهو نيئ؟)
قلت:(يا أخي إن المسألة ليست مسألة منطق وجدل، إنما هي مسألة طعام، فخذ منه وذق، وأنظر بعد ذلك كيف تجده، ثم إنه لا شك أخف على المعدة وهي أقدر على هضمه من اللحم الذي أنضجته النار، وأثقله ما يخلط به)
فهز رأسه منكراً، وأبى أن يجرب. ومضت أيام، فاشتهيت أن آكل كبداً نيئة، فصارت الخادمة بعد ذلك تعلن الخوف مني ولا تخفيه، وتغلق عليها الأبواب حين تنام، كأنما خشيت أن آكلها حية، ثم لم تطق صبراً فتركت البيت، وتحدث إلى المخدم بأني (غول) فتعذر عليه أن يقنع غيرها بالعمل في بيتي، فجئت بواحدة من الريف ويخيل إلي أن المدينة تضعفنا من حيث ترقينا، وتشيع في نفوسنا روح الأنوثة، فنزداد عليها رقة وتطريا، ولا نزداد قوة وقدرة على المقاومة. فنحن مثلاً نقاوم البرد بالثياب لا بأجسامنا وما فيها من المناعة الطبيعية التي تستفاد من التجرد، ولا يستطيع الواحد منا أن يخطو عشر خطوات بقدم حافية، وما أكثر ما تسمع الأم تحذر ابنها أن يمشي حافياً حتى في البيت مخافة أن يصيبه أذى من الرطوبة أو نحوها. والخبز يوضع على المائدة في طبق حتى لا يمس السفرة، والأشواك والسكاكين والملاعق نوضع مستندة إلى قطع من الزجاج أو المعدن ترفع أطرافها، وهكذا في كلُّ شيء، ولكن القطة مثلاً تعتمد إلى كوم الزبالة فتنبشه وتأكل ما تجد فيه من فتات الخبز أو غيره، والكلب يقضم العظام مخلوطة بالتراب فلا يصاب بسوء ولا تعروه حمى، وينام تحت عين الشمس فلا تضربه، وإذا جاء الشتاء لم يتخذ لحافاً ولا شبه. وحدثني طبيب يعمل في الريف أنهم قلما يعنون بتطهير أدوات الجراحة في مستشفيات القرى عنايتهم بذلك في المدن، ولا يرون أن هذا يضير المرضى، أو يحدث لهم تسمماً، وهو يعلل ذلك بأن الأجسام في القرى أعظم حصانة وأقوى مناعةً لكثرة تعرضها، على خلاف الحال في المدن
ونصحني مرة طبيب من أصدقائي أن أكف عن أكل اللحم وأن أقتصر في طعامي على