تحتفل (الرسالة) اليوم بذكرى حادث كريم لم يكن بعد النبوة أعظم ولا أبعد أثراً منه في تاريخ الإسلام بل في تاريخ الإنسانية. فلولا الهجرة ما ظهر الإسلام ولا غلب على جزيرة العرب، ثم على أهم مواطن نصف الكرة الشمالي من الأرض. ولولا ظهور الإسلام، وما استلزمه من جهاد في سبيل الله، وما أنزله الله من هدى يهدي به المجاهدين سبله، لحُرم الإنسان ذلك الهدى، ولظل في أموره موكلاً إلى نفسه، لا يكاد في السلم يقف عند حد في طلب اللذة، ولا يكاد في الحرب، كما تشهد الحرب العظمى، يقف عند حد في إتيان ما يظن أنه يكفل له النصر. فالعهد الذي كان في الإسلام قبل الهجرة إنما هيأه الله ليؤدي بقدر منه إلى الهجرة، ثم إلى ما كان في حياة الرسول بعد الهجرة. وهو إلى ذلك كان عهد تشريع من الله على يدي رسوله للناس فيما ينبغي أن يفعلوه إذا كانوا في حالة من الضعف لا يملكون معها من أمورهم إلا القليل: يصابرون في سبيل الله ويصبرون ما استطاعوا، ويهاجرون إن استطاعوا بدينهم في سبيل الله إلى حيث يمكنهم أن يقيموا دينهم آمنين، فإن أمكنتهم بعد ذلك قوة يستطيعون بها الدفاع عن دينهم ولو بالسلاح، فقد وجب الدفاع. إنما عليهم في كل ذلك، مهما يكن الحال، أن يستمسكوا بدينهم كما يتمسك الغريق بحبل النجاة.
والعهد الذي كان في النبوة بعد الهجرة كان، فيما كان، عهد تشريع من الله على يدي رسوله للناس فيما يجب عليهم وما ينبغي لهم في حال القوة، سواء أكانت قوة ناشئة قد حيا لها الأعداء أم كانت قوة غالبة قد مكن الله لأهلها في الأرض، فلم تبق يد أعلى من أيديهم، ولا كلمة تنافس كلمتهم في الرفعة والسلطان. وفيما بين هذين الحالين أحوال تنقلب فيها الأمم الناشئة، لولا الهجرة ما عرف الإنسان سنن الله في مثلها ولا طريق الفلاح فيها.
فالهجرة إذا شئت هي نقطة الانقلاب من الضعف إلى القوة لا في تاريخ شعب فحسب، ولكن في تاريخ دين شاءت رحمة الله بالبشر أن يمن عليهم به ليعرفوا ما لم يكونوا لولاه ليعرفوه من سنن الله في الإنسانية بحذافيرها، ولا فيما يتعلق بالفرد فقط، فقد كان فيما أنزل الله قبل الإسلام من دين ما يكفي لأن ينجو به الفرد مما يتهدد نفس الفرد من أخطار، ولكن فيما يتعلق بالمجموع على الأخص، أي فيما يتعلق بالإنسان من حيث هو أمم وشعوب، ثم