للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من حيث هو جنس واحد، أبدعه إله واحد، وجعل طريق بلوغه أعلى غاياته التي قدرت له في التعاون في الله والاجتماع، لا في العزلة والافتراق.

ولعل هذه الناحية هي الفرق الأكبر بين الإسلام وبين ما قبله من الأديان التي أنزلها الله. بالأديان قبل الإسلام هدى الله الإنسان من حيث هو فرد ومن حيث هو جماعة منعزلة؛ وبالإسلام هدى الله الإنسان من حيث هو فرد ومن حيث هو جماعة منتشرة متصلة، ثم من حيث هو جنس حياته ورقيه في اتباع سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها وفطر الكون. وكان عهد التشريع الإلهي للجماعة العامة هو ما بعد الهجرة، وعهد التشريع للفرد كان فيما قبل الهجرة، ثم فيما بعد الهجرة ضمن دائرة الجماعة. فكأن الله سبحانه أراد أن يكمل للإنسانية دينها في الإسلام، ويجمع لها فيه الدين كله، جعل الإسلام عهدين يكادان يتساويان: عهد الفرد قبيل الهجرة، وعهد الجماعة بعد الهجرة. فقبل الهجرة كان عهد التضحية في سبيل الله من الناحية الفردية البحتة كما كان يحدث في الأديان التي قبل، كالنصرانية. وبعد الهجرة كان عهد تكون الجماعة وتطورها إلى جماعة كاملة تسير في الاجتماعات طبق الفطرة: قانونها كتاب الله، ولا حكم فيها ولا سلطان عليها إلا الله. فتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم يمثل تاريخ الأنبياء قبله في شطره، ويختص ويمتاز في الشطر الآخر، وبالشطر الآخر. فهو مبدئه إلى منتهاه يمثل تاريخ ترقي الله بالإنسان في الدين، كما يقولون إن تاريخ خلق الله الإنسان يتمثل في خلق الجنين.

إن الإنسان خارج دائرة الدين لا يزال يتخبط في الاجتماعيات إلى الآن. قد استطاع في عهده الحديث أن يتوصل إلى كثير من سنن الله فيما ليس بإنسان، أما سنن الله في الإنسان خصوصاً من الناحية الاجتماعية فلا يكاد يعرف منها شيئاً يقينياً، وما يسميه علم الاجتماع، على ضيق مداه، أكثره آراء ولا تزال تنتظر التمحيص. ومن عجب لطف الله بالإنسان أن وكله إلى نفسه فيما لا يتعلق بالروح، ولم يكله إلى نفسه فيما يتعلق بالروح. وكله إلى نفسه في العلوم الطبيعية فلم يرسل رسولاً يعلم الناس حقائق العلم، وإن لهم على طريق التوصل إلى ذلك بأنفسهم في كثير من آيات القرآن في معرض التذكير والتعريف به سبحانه. لكنه لم يكله في أمر الروح إلى نفسه، وإلا لقضي على أجيال كثيرة من الأرواح، إن لم يكن على جميع أجيالها، بالهلاك. ترك الإنسان يتواصل بمجهوده وتجاربه إلى سنن الله في كل

<<  <  ج:
ص:  >  >>