إن كل شيء ممكن ولا سيما في هذه الأيام. وليس لأحد أن يكذب إمكان حدوث شيء بعد أن شهد هذا العصر ما شهد من صنوف المخترعات والمبتدعات. فمن ذا الذي كان يحلم أن الإنسان قد يكون جالسا إلى مكتبه بالقاهرة، فيسمع موسيقى دار الأوبرا في باريس أو فينا؟ وينصت إلى نجوى النظارة وتصفيقهم، حتى كأنه جالس معهم هناك يسمع ما يسمعون ويشهد ما يشهدون؟ وما هي إلا خطوة واحدة ثم يستطيع الإنسان أن يسمع ويرى في آن واحد. فيتيسر له عند ذلك أن يرى بعينيه أهل باريس أو فينا أو سواهما، وهم يتمايلون للموسيقى ويعجبون بالراقصة أو المغنية، وأن يرى المسرح بما فوقه من الفتن الشهية، ولن يحس الناس عند ذلك بوجود المسافات ولا بحدود الدول والبلدان. وهكذا أرجو إذا أنا وصفت للقراء ما أوصلني إليه الدأب، ومكنني منه الدرس من الاختراع، ألا يكذبني ما كذب، فما غرابة قصتي هذه بمنقصة من قدرها، إذا صارت الحقائق أعجب من صور الخيال، وأصبح إدراك المشاهد أعسر على الذهن من تصور الخيالات، فبينا يرى الإنسان الآلة المحدثة بين يديه حقيقة ماثلة ملموسة إذا به يراها عند غاية الاستعصاء والغموض والتأبي
ولقد وفقني الله لاختراع آلة عجيبة، ولكنها من مثل تلك الآلات المحدثة التي ذكرتها آنفا تراها وتلمسها، وتؤمن بأنها حيالك ماثلة موجودة. ثم تحار في معرفة كنهها والغوص إلى موضع سرها. هي مرآة لا أكثر ولا أعظم، ولا يختلف ظاهرها عن المرآة المعتادة إلا في أنه يحيط بها إطار به لولب مختلفة لتحريكها وتحديد موضعها. ولكنها في حقيقتها فذة فريدة، إذ أنها لا تنقل إلى الرائي صورة وجهه إذا نظر إليها، بل لقد يظهر له فيها إذا وضعها أمام عينيه شكل شخص آخر، أو شكل بعض الحيوان، أو شكل كائن آخر من الكائنات، ولعلها تفزع من لا عهد له بها ولا دراية له بسرها؛ فقد تنظر إليها حسناء لترى هل دهان شفتيها لا يزال هناك لم تخطفه الشمس ولم يمحه بنان النسيم، فترتاع إذ تجد المرآة تبرز لها صورة كريهة كصورة قرد مثلا، أو كصورة عجوز شوهاء. وقد ينظر إليها فتى من الفتيان ليتحقق من أن سحر عينيه لا يزال على عهده به، وأن موضع رباط رقبته