لا يزال حيث رآه آخر مرة في آخر مرآة مر بها من تلك الزجاجات المنصوبة على جوانب الحوانيت والدكاكين الكبرى فتظهر له صورة أخرى مثل صورة فتاة لعوب، أو صورة تيس أو حيوان آخر مما تعارف الرجال على كراهة التشبه به والظهور في مظهره. ولكن الإنسان إذا عرف إن هذه المرآة لا تظهر للرائي صورته، لم يلتمس أن يرى فيها صورة نفسه، وبذلك يحفظ نفسه من الألم الذي قد يصيب من يجهل أمرها وسرها. فإن سر تلك المرآة أنها لا تلتقط إلا أشعة الضوء القديمة التي مضى على سيرها آلاف السنين على الأقل. وهذا الأمر يحتاج إلى شيء من التفسير، ولكني سأشرحه شرحا يسيرا حتى لا أخرج بالقارئ طويلا عن صلب القصة
أنت تعلم أن المادة لا تفنى، وأن الطاقة لا تنعدم، فهذا يعرفه كل من درس أوليات العلم. وتعلم أن شعاع النور طاقة، والنور على ذلك لا ينعدم. فإذا سار الشعاع الضوئي في الفضاء فأنه يظل سائرا إلى أبد الدهر إلا إذا تحول إلى طاقة أخرى. وتعلم أن الإنسان يرى الأشياء لأن الضوء يقع عليها ثم ينعكس منها إلى عينه فيحمل صورة الأشياء إلى العين. فإذا سار الشعاع المنعكس إلى أبعد الجهات أمكن أن يحمل صورة الأشياء إلى تلك الجهات البعيدة. والضوء كذلك يسافر بسرعة هائلة، فهو يحمل الصور بتلك السرعة، ولكن المسافة إذا كانت بعيدة جدا لم يستطع الضوء أن يقطعها إلا بعد مدة قد تكون طويلة، فإن شعاع الضوء يأتي إلى الأرض من بعض الكواكب في أعوام وقرون، ومنها ما يصل إلى الأرض من كوكب بعيد في آلاف السنين
هذه كلها مقدمات، وهناك بعد ذلك أمر آخر، وهو أشد استعصاء على الفهم، وذلك أنني قد كشفت أن الضوء لا يسير في خط مستقيم كل الاستقامة، بل إنه منحن قليلا، فإذا سار منحنيا على هذا النمط تكونت من سيره دائرة، لأن الدائرة تتكون من خط منحن انحناء منتظما سائرا على نمط واحد. فإذا سار شعاع فوقع على شيء ثم انعكس إلى الفضاء، فأنه يسير حاملا صورة الشيء الذي وقع عليه، ويستمر في سيره دائرا حول الأرض حتى يعود إلى موضعه، ولا يزال يفعل هكذا أبد الدهر، فإذا استطاع إنسان أن يخترع آلة من خواصها أن تقبض على هذا الشعاع التائه في الفضاء، أمكنها أن تتلقى صورة الشيء الذي انعكس منه ذلك الشعاع