وإذن فالأمر هين، إذا اخترعت مرآة من معدن خاص لا يلتقط إلا الأشعة الضعيفة التي قضت في سيرها في الفضاء أو في دورانها حول الأرض آلاف السنين. ومن شأن هذه المرآة أنها لا تلتقط الأشعة القوية الطازجة، فإن تلك الأشعة تقفز عن سطحها قفزا بغير أن تثبت قليلا لتنعكس عليه، فالذي ينظر إلى تلك المرآة لا يرى فيها شيئا إلا إذا اتفق أن سقط عليها شعاع من تلك الأشعة المعتقة التي تنم عن أشياء الماضي وحوادث الماضي، كما أنها قد تلتقط أيضا أشعة النجوم البعيدة إذا كانت لا تبلغ الأرض إلا معتقة أي بعد آلاف السنين من تركها كواكبها
أخذت هذه الآلة يوما كعادتي كلما خرجت إلى نزهة وذهبت إلى جوار الأهرام لأجول حولها جولة، ولما أتعبني ذلك التجوال جلست أستريح على حجر من تلك الأحجار الضخمة التي قد انفرطت من عقدها، ولم يكن معي كتاب أقطع الوقت بالقراءة فيه، فأخرجت الآلة أنظر فيها وأقلبها في يدي، فقد عودتني كلما نظرت فيها أن أجد صورة مسلية من صور الماضي إذ تلتقط شعاعا من تلك الأشعة القديمة التي تقص علي نبأ حديث قد مضت على وقوعه القرون الطويلة. ولكنها لم تحقق أملي عندما نظرت فيها فلم أنزعج من ذلك، وقلت إن الموضع الذي كنت فيه ليس مما تكثر به الأحداث والقصص. وجعلت أتأمل لون مائها وأحدق في نكتة سوداء عند حافتها لا أقصد من وراء ذلك إلا العبث والتلهي. فلاح لي عند ذلك خيال يتحرك فيها وكان خيالا ضئيلا. فعلمت أن المرآة قد التقطت شعاعا، ولكنه شعاع قوي لم تمض عليه المدة الكافية لإضعافه وتعتيقه، فجعلت أحدق في المرآة حتى استطعت أن أتبين الصورة بشيء من الجلاء
رأيت الفضاء الذي حولي هضبة مستوية ليس عليها شيء غير كوم واحد، فعلمت أن ذلك الشعاع يحمل صورة الهضبة قبل أن تبنى فيها الأهرام الصغرى وعندما كان الهرم الأكبر لا يزال يبنى. وكان الهرم لم يبلغ بعد نصف علوه، وكان يدور حوله جسر من التراب كالحلزون يتضايق كلما ارتفع، وكان على ذلك الجسر ألوف من الناس بعضها صاعد وبعضها نازل تلوح في الصورة كما يلوح النمل في قرية من قراه تتماوج في ترددها بين الجيئة والذهاب تارة تتقارب وأخرى تنتشر، وتارة تجتمع وتارة تتفرق. ورأيت سموطا من تلك الألوف قد اجتمع كل سمط منها عند جبل قد أخذ كل فرد بقبضة منه، وكان وراء كل