القياس فن واسع الأطراف، متشعب المسالك، يمت إلى كل باب من أبواب اللغة بصلة، ويكاد يجري ذكره عند كل مسألة، ولولاه لضاقت الفصحى على أبنائها، وقعدت بهم عن مسايرة ركب الحياة. لم يؤلف فيه - على ما أعلم - غير هذا الكتاب. وسبب تأليفه أن مؤلفه البحاثة الأستاذ محمد الخضر حسين كان يمر أثناء دراسة لعلوم العربية على أحكام تختلف فيها آراء العلماء فيقصرها بعضهم على السماع، ويراها آخرون من مواطن القياس، وقد يحكي بعضهم المذهبين دون أن يذكر الأصول التي قام عليها ذلك الاختلاف. فرأي فضيلته أن التمسك بمثل هذه الأقوال من المتابعة التي لا ترتاح إليها نفس العالم الحر - ولاسيما أن الكتب التي اعتمد عليها أصحاب هذه الأقوال قد أصبحت في متناول أيدينا - فأخذ يوجه نظره الثاقب إلى الأصول العالية التي يراعونها في أحكام القياس والسماع حتى ظفر بقواعده صريحة أضاف إليها غيرها مما استنبطه أو ابتدعه فكان من ذلك (كتاب القياس). شرح الأستاذ في هذا الكتاب حقيقة القياس، وفصل شروطه، وجمع أصوله وضم أشتاتها، وأبرزها في ثوب قشيب، سهلة القطاف للراغبين، وقدم له بمقدمة رائعة في فضل اللغة العربية ونشأتها ومسايرتها للعلوم المدنية، وحاجاتها إلى المجتمع، وتأثيرها في الفكر، وتأثير الفكر فيها، إلى غير ذلك من الأبحاث الموجزة الشائقة، ثم تكلم عن القياس ووجه الحاجة إليه، وذكر أقسامه وخص منها بالبحث القياس الأصلي وقياس التمثيل، وتكلم عن الأمور المشتركة بينهما كالقياس في الاتصال، والترتيب والحذف والفصل إلى آخر تلك المباحث التي طبق فيها المؤلف مفاصل السداد، وأصاب شواكل المراد، ودل بها على تبحره في علوم اللغة، وتمكنه من ناصيتها. بيد أني كنت أحب أن يطلق الأستاذ ليراعته العنان، ويبسط القول بعض البسط، ويكثر من المثل والشواهد لتكون الفائدة بكتابه أعم وأعظم. وإن كان للأستاذ العذر فيما ذهب إليه من الإيجاز