كان ذلك منذ خمس وتسعين حجة على وجه التقريب، وفي أمسية الربيع الضاحك الزاهي جلس (محمد أغا أقبيق) والد النابغ الدمشقي احمد ابو خليل القباني في حقوة داره الكبيرة ذات البحرة الدفاقة المعروفة في حي الشاغور، يستقبل وفود المهنئين من وجوه الحي وأعيان الشام بمناسبة احتفائه بختم ولده القرآن من فاتحته إلى خاتمته.
وكان في صدر الدار من الوافدين مفتى الديار الشامية الشيخ محمود حمزة وعالمها الأوحد الشيخ بكري العطار، وكلهم مغتبط مسرور بحفاوة رب الدار بهم وإكرام وفادتهم. وكان من عادة السامرين في هذه المجالس أن تكون الأحاديث فيما بينهم جميعاً تدور حول امتداح المحتفى به على سبيل المجاملة، وإدخال السرور على فؤاد والده، وإيناسه وإثلاج صدره، فشرع الكل يطرى ذكاء أحمد ويمتدح نشاطه وشدة ميله إلى الدراسة والتعلم. فقال مفتى الشام فيما قال:
إني لأعجب يا حضرة الأغا العجب كله لشدة ذكاء ولدك هذا؛ إنه إلى حداثة سنه وصغر مداركه أراه لا يترك حلقة من حلقات التدريس التي يعقدها علماء الشام في المسجد الأموي إلا قصدها وكان من روادها. إنه لا يترك المسجد ساعة من نهار إلا في أويقات الطعام؛ فرواد الحلقات عل كثرتهم وميلهم لطلب العلم لم أر بينهم من يفضله في ذكائه واجتهاده ونشاطه. إنه لا يحل حبوته أمام شيوخ الحلقات، فلا يكاد ينتهي شيخ من درس حتى يزحف إلى شيخ غيره، وهكذا يظل سحابة يومه كالطائر الغرد ينتقل من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، يجتني من الأغصان والأدواح الباسقة أطيب الثمار واشهى الفواكه، حتى ينصرف شيوخ الحلقات وروادها ويقفز المسجد، وتتعطل لغة التدريس فيه. ولما سكت المفتي عقب الشيخ العطار على حديثه قائلاً:
أضف إلى هذا أنك تراه في الحلقات دائماً يكثر من تحريك أصابع يديه ورجليه ويكثر من التنغيم والترنيم همساً في فمه، وكثيراً ما يسترسل في عمله إسترسالا يجلب إليه النظر، فيبادر من بجانبه من صحبه وهو ساهم غائب عن الدنيا والعالم يفكر في شئ غير الدرس، فينبهه ويفهمه أنه في المسجد وفي الدرس، ولا في الملهى والمسرح فينتبه فوراً ويصغي.