ولعل لهذا الفتى ميلاً خاصاً لاشياء أخرى غير ميله للدروس العلمية والفقهية، وإن صدقتني فراستي فولدك هذا لا بد أن يتردد على مجالس الموسيقى ويعاشر الموسيقيين. فهل يسمع أحداً من أرباب هذه الصناعة، أم أن هناك ميولاً فطرية في طبعه أثرت عليه، فولدت فيه هذه الناحية؟
وكان الأب مغتبطاً مسروراً بما يسمعه عن ولده من مدح وثناء، وقد طال سكوته وإصغائه لمثل هذه الأحاديث السارة البهجة دون أن ينبس.
وبعد تفكير عميق قطع حبل صمته قائلاً: ولهذا أراكتكثر يا أحمد من ارتيادك مقهى العمارة الكبيرة، فبحقي عليك هلا أخبرتني عما تفعله هناك. وأستحي الفتى وأصطبغ لون وجهه بالحمرة وكلل العرق جبينه وغدا كأنه صنم من الأصنام لم يحر جواباً ولم يتحرك. . .
وكان هناك في الحفلة خال له يعطف عليه ويحبه حباً جماً ويعرف روحاته وجياته، وهو واقف على أسراره الوقوف كله. فألتفت إلى أبيه قائلاَ:
أجل إنه يؤم حي العمارة كل ليلة ويسمر هناك في المقهى الكبير مصغياً إلى أهازيج (الكركوزاتي) على حبيب، ويشهد محاوراته مع الصور الخيالية المؤلفة من رسوم عنترة وعبلة والمهلهل والزبر والزناتي خليفة والملك الظاهر، وغيرهم من أبطال القصص التاريخية الموضوعة لإلهاء الدهماء عن البحث في أمور لا تعنيهم في عهد الفاطميين.
وأزيدك يا عم علماً أنه يذهب في كل اسبوع مرة أو مرتين إلى مكان خصصه اين السفر جلاني وأبن الغبرة والأدلي وغيرهم ممن لهم ميل خاص في الموسيقى والأهازيج، ليتمرنوا هناك على الغناء والتمثيل.
ولقد فاجأته أكثر من مرة وهو منفرد في حجرته يقلد السيد علي حبيب في مخاطبته عبلة بإشعار عنترة، ويمثل دلال عبلة على أبن عمها عنترة كما يفعل (الكوكرزاتي) على حبيب خلف الشاشة البيضاء التي أخفى الصور الخيالية خلفها ونثرها على ضوء المصباح الضئيل، وأصغيت إلى صوته الشجي عندما كان ينشد قول الفارس العبسي المدنف في حبيبة قلبه وفاتنة عقله يخاطبها بقوله:
هلا شهدت الخيل يا أبنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
ينبك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم