ولما شعر بوقع أقدامي صمت بمقدار ما أنضح صوته في القاعة بدوي؛ وكان يشير بيديه كالمعتوه الذي خولط في عقله صائحاً:
وسيقي كان في الهيجا طبيباً ... يداوي رأس من يشكو الصداعا
ولو أرسلت رمحي مع جبان ... لكان بهيبتي يلقى السباعا
أنا العبد الذي خبرت عنه الخ. . .
فلم أستطع الصبر على تركه وحده في القاعة هكذا يخاطب نفسه كالمجانين، وإنما فتحت عليه الباب الموصد ودخلت فجأة فأسقط في يده وسكت. فصحت به ما هذا يا أبن أختي؟ ما الذي تفعله؟ تقلد (الكركوزاتي)!! أين (كراريسك) ودفاترك وأين كتبك وهنواتك الدراسية؟ أهذه هي الدروس التي تعلمتها في المسجد على مشيخة الشام ونخبة علمائها؟ تلهو بالقشور وتترك اللباب إنك والله لمن الخاسرين الذين يضيعون مواهبهم وذكاءهم في أمور مخزية. ماذا يقول الأغا والدك غداً إذا علم بنزعتك هذه؟ فما كان منه إلا أن جبهني بقوله: أناحر في تصرفاتي، وليس لأحد علي سلطان. فأنا إنما أبني لأهلي وبني قومي مجداً مؤثلا في ارتيادي هذه الناحية. وسترون مني ما يدهشكم من الأعمال الباهرة التي سأقوم بها خدمة للفن أنا وصحبي.
وكان المفتي يصغي مطرقاً إلى حديث الخال المحترم، وعند ما سمع هذا الحديث عن تلميذه الذي كان مكيراً فيه ذكاءه النادر ومواهبه الفذة، فلمس فيه هذه الناحية التي تخالف مبدأه الديني ونزعته الصوفية، لم يطلب المقام له في تلك الحفلة النادرة بعد الذي سمعه، فخف من المجلس على الأثر وهو يتمتم: أعوذ بالله! تمثيل. . . موسيقى. . . غناء، على حبيب! إن هذا المنكر لا نطيق سماعه، ولا نطيق السكوت عنه، أنت يا أحمد مطرود من الدرس منذ الليلة.
قال الشيخ قوله هذا وزحف على قدميه وقد كور جبته وراء ظهره وعقد يديه فوق الجبة وأستلم باب الدار دون أن يودع الحاضرين استنكاراً للأمر وتظاهراً بالورع والتقوى. . .
فتبعه الشيخ العطار وقفى على أثرهما بقية من في الدار من الوجوه والأعيان، وتفوض المجلس وخلا من سماره. وكانت هذه الهنة حافزاً للأب على الأيفاع بولده وغضبه عليه وهجراته إياه.