تدرج الطبيعة بالإنسانية في مدارج الرقي والكمال، وتنهج بها مناهج السمو والتطور، فتحرص على النافع وتختار الأصلح، وتجدد دائماً! فتنقل الناس من حال إلى حال، ونخرج بهم من وضع إلى وضع، وما أداتها في هذا إلا الشخصيات العظيمة، والنفوس الكبيرة، والإرادات القوية الوثابة، التي تحمل في أطوائها عظمة الطبيعة نفسها، فإذا هي في أعمالها وحياتها ومواهبها برامج سامية للجنس، وشرائع عالية للنوع، وعوامل ناهضة بدهماء الناس من ظلمة الخمول، وحمأة الانحطاط، ومُثل رفيعة تنير بروعتها في النفوس أعمق الخواطر، وتلهمها الإنشاء والخلق والإبداع!
وما الأدب في وضعه الشامل، ومادته المتصلة بكل شيء إلا دنيا حافلة، وإنسانية كاملة، فهو - كما يقول مكسيم غوركي - مرآة الحياة تنعكس على زجاجته المصقولة، في هدأة الحزن أو ثورة الغضب، سائر مشاكل الحياة وشعابها المترامية، وخيوطها المشتبكة، ومناحيها المتنائية، كما تنعكس كذلك على أديمه الشفاف كافة رغباتنا وشهواتنا ومشاعرنا وآمالنا، والجداول العميقة الراكدة لحماقتنا وطيشنا، وسعادتنا وشقائنا، وشجاعتنا وفرقنا، أمام الغد المجهول، والمصير المحتوم، ومعاني الحب والبغض لدينا، وسائر معايب نفاقنا وعار أكاذيبنا، ومهانة خداعنا، وركود أذهاننا، وآلامنا التي لا تنتهي منها ولا تنتهي منا، وجملة آمالنا الخفاقة الملهبة لشعورنا، المتنزية في خواطرنا. . . وبالاختصار هو كل ما يحيا به العالم وسائر ما يعتمل وينبض في قلوب البشر. . .
فدنيا الأدب هي دنيا الناس تامة كاملة، يصورها لنا الأسلوب المهذب، ويرسمها التعبير الفني الجميل، وإن النهج الذي تسلكه الطبيعة في دنيا الناس للسموّ بالإنسانية، والترقي بالعالم، هو هو بعينه النهج الذي يحتذيه النقد في دنيا الأدب لخدمته وصقله وتهذيبه واختبار الأصلح منه. . . كما تفعل الطبيعة تماماً في دنيا الناس المادية المحسوسة، وما النقد إلا رسالة من رسالات الطبيعة وعمل من أعمالها، فمن المعقول أن يحتذيها في مهمته، وأن يكون على غرارها في وضعه، فهو - على ما يجب أن يكون - إرادة قوية تكشف وتوضح، وتختار وتميز، وتنفي وتثبت، وتزجر وترشد، قد تبتر الضعيف، وقد تحابي