القوي، وما قصدها في ذلك إلى البطش والانتقام، ولا إلى المداهنة والمحاباة، ولكنها تقصد إلى صقل الخواطر، وتهذيب المشاعر، وتطهير الأفكار من مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فما تزال تتعهدها بذلك حتى تقيمها على الوجه الصحيح النافع، فإذا هي سمو بالإنسانية، وصلة بالحياة، ومادة للخلود، ومبعث الروعة والجلال على مدى الدهر وطول الأيام. . .
والأدب والنقد يهدفان إلى غاية واحدة، ويتعاونان في مهمة متفقة، فالأدب - كما يقول الرافعي - يقدّر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولة إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني؛ والنقد من وراء الأدب في هذا كله، يصح له هذا (التقدير) من جميع جهاته، ويسدده على طريقه القويم، ويدله على الصور الرائعة التي يصح أن تكون مثلاً أعلى لما نطلبه من جمال الحياة وجمال العواطف، ومن ثم كان النقد - كما يقل شوقي - حارس الأدب، ومكمل الكتاب والكتب، ومن ثم أيضاً كان النقد أساساً لكل نهوض أدبي مثمر، فإذا ما رأيت أدباً مهذباً يغمر أصحابه بالحياة، ويؤدي لهم غذاء العواطف والعقول، ويملأ نفوسهم باليقظة والحكمة والإحساس، ويرفعهم عالياً إلى الكمال الإنساني، ثم رحت تتلمس السبب في ذلك فلن تجده إلا النقد، ثم النقد، ولا شيء غير النقد. . .
قال لي أديب كنت أبسط له هذا الرأي: ولكنك تعلم يا صاحبي أن أهل الفن قوم خلقهم الله أحرار المواهب، فهم يطلبون حرية الفكر، وذلك عندهم كل شيء، ولعلك تذكر في ذلك قول ملتون الخالد (أعطني حرية القول، وحرية الفكر، وحرية الضمير، ولا تعطني شيئاً غير ذلك) والنقد إنما هو ضرب من ضروب الحجر على هذه الحرية وحبسها عن التحليق في سماء الفن وجو الحياة الفسيح، ولاشك أن الفنان إذا ما فقد حريته فقد فقدَ عبقريته، وتلاشت شخصيته. . . ثم أنت تعلم أن حياة الفن إعجاب وتقدير، وأن الفنان في حاجة كبيرة إلى العطف والثناء والمدد والبخور، ولكن النقد كثيراً ما يرهق أعصاب الفنانين - وهي الدقيقة المرهفة - بصلف الأستاذية، وعنت الحزازة وعبث التطفل، وكثيراً ما هوي فنانون صرعى هذا الطغيان أو قل هذا اللؤم، وكثيراً ما أحجم كرام فضلاء عن الظهور في