الميدان ضناً بأعراضهم أن ترتع فيها الألسنة المضراة، وصوتاً لآثارهم أن تبتلى بلئيم لا ينصف، أو جاهل يتعسف. وقديماً قيل: أحق الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل! وهذا ما يجعلني أعتقد أن النقد عداوة للأدب، وتهجم على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد، يهدم ويثبط، ويندفع في جبروته واستبداده لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . وهذا ما جعلني أيضاً أرتاح لصنيع ألمانيا يوم حرمت النقد الأدبي، ووقفت به عند عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء أي رأي. ولقد كان وزير الدعاية الألمانية على حق إذ يقل في بيانه الذي أصدره في ذلك الصدد: إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقية فيجب أن يسمح لهم بحرية الابتكار، والاحتفاظ بكرامتهم الفنية، ويجب أن تصان العبقرية الصحيحة من كل ما يؤذيها ويمهد لسقوطها!
ولقد يبدو هذا الكلام طريفاً لبعض الناس، وأذكر أني سمعت صداه في ندوة أدبية، وقرأت كلاماً بمعناه في إحدى الصحف، ولكنه في الواقع أفن من الرأي لا يصح في عقل، ولا يستقيم في منطق، فان النقد ليس مصادمة لحرية الفنان في شيء ولكنه نهوض بهذه الحرية إلى الأوج، وارتفاع بها عن العبث، وتقويم لها على المبادئ القويمة، والرغبات النافعة، وإذا كان له أن يقف بالفنان عند حدود، أو يلزمه بقيود، فليست هي إلا الحدود الفنية، والقيود التي هي معالم الفن نفسه ودعائم كيانه، وبالتزامها يسمو وينهض، وبمراعاتها ينمو ويفرع. فإذا ما أباح لنفسه أن يتعداها وأن يستهين بها، هان أمره، وهاض شأنه وذهبت شخصيته، وانتهت رسالته، كتلك القيود التي يتملص منها بعض الناس، من تفريط في حق اللغة، عدم العناية بالأسلوب، والاستهانة بأوضاع العرف والأخلاق، والتقاليد والدين!
ثم لماذا يناهض النقد الأدب؟ والنقد والأدب صنوان يجمعهما الفن إلى أصل واحد، ويربطها برباط العصبية والقرابة، أو على الأقل برباط الود والصداقة، فإذا ما نظر النقد إلى الأدب وهو ينصح له، أو يسخر منه، أو ينكر عليه، أو يعجب به، فما هو في هذا كله إلا الصديق الحدب، والرفيق المخلص، من واجبه أن يصور الأدب أمام نفسه بأغلاطه ومساوئه، وصوابه ومحاسنه، وأن يرى في ذلك الرأي الصريح المخلص، كما يفعل الأدب تماماً إذ يصور الحياة أمام نفسها بأغلاطها ومساوئها، وصوابها ومحاسنها، وأن يحكم في